باحتفالية منقطعة النظير، ومع استثناءات ضئيلة جداً، اعلنت الطبقة السياسية عندنا انها رهينة في يد القبائل (والاساطيل) التي تضع يدها على المنطقة…
هنا قبائل من طراز آخر. قبائل الفيرساتشي والايف سان لوران، والكريستيان ديور، لكنها في الاداء قبائل التوتسي والهوتو. مَنْ مِنَ اللبنانيين يستطيع ان يتحمل كل هذا الصياح؟ قد نكتب على خطى زياد الرحباني: حين تصبح الجمهورية مزرعة للمجانين…
وبالاحتفالية إياها اعلنت الطبقة السياسية انها لا تملك القدرة، ولا الارادة ، ولا الاستقلالية في ادارة (او سوق) تلك القطعان البشرية الهائمة على وجهها. لماذا هي هناك اذاً؟ الاحرى لماذا نحن هنا اذاً؟
قد نأخذ بذلك الرأي القائل ان لبنان بات مفخخاً باللاجئين الفلسطينيين والسوريين، حتى اذا ما اخذنا بالاعتبار مدى الاحتقان المذهبي، فإن ثمة من هو موجود في مكان ما ويستطيع تفجير الجمهورية في اي لحظة. ان عبوة بشرية هائلة تتم برمجتها الآن لتفجير لبنان في اي وقت، وبتواطؤ مثير للذهول، ولنقل انه التواطؤ الايديولوجي، بين اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية وبعض التنظيمات السلفية التي انتجتها الازمة السورية او التي انتجها ذلك السقوط العربي العام، والذي يتوخى تفتيت لبنان او ازالته..
في لحظة ما قد تتناهى الينا قهقهات يتودور هرتزل وابي مصعب الزرقاوي. التقاطع حتى في …القهقهات!
لا احد يمكنه القول ان لبنان خارج هذه المنظومة الجيوستراتيجية التي تدعى الشرق الاوسط (الانكليز هم من اخترعوا المصطلح)، ولا مجال البتة للقول ان بوسعنا ان ننأى بانفسنا عن التداعيات الدراماتيكية لما يحدث في المنطقة، ولكن ليس الى الحد الذي يبلغ بنا التصدع ان نتواطأ ضد بقائنا بل وضد وجودنا. نلتقي ديبلوماسيين او مراسلين اجانب. يستغربون كيف اننا مصابون الى هذه الدرجة بالعمى السياسي، وبالعمى الاستراتيجي، قبل ان يقولوا اننا مصابون بالعمى الاخلاقي. استطرادا بالعمى التاريخي..
كيف يتحول بعض ملوك الطوائف، والتيجان على رؤوسهم (ما بالك بالصولجان!) الى دمى تدار الكترونياً (وقبلياً). واذا كان من المنطقي ان تنتقل الحرائق السورية الى ديارنا، فاين هو المنطق في ألا ندفع بأيدينا، حتى ولو كانت الايدي العارية، الحرائق المذهبية التي، وبغباء وحشي، يفسرها البعض عندنا بأنها احد تجليات الغيب. ياللغة حين يتماهى فيها، وإن تقنياً، الغيب والغيبوبة!
انهم يحترفون صناعة الفراغ. لا شيء اكثر. يقال لهم لا حكومة فيقولون لا حكومة، ولا رئيس جمهورية، ولا جمهورية. اذاً، ماذا؟ ومن تراه يملأ ذلك الفراغ حين يتم، فعلا، تفخيخ لبنان بكل تلك الكمية الهائلة من اللاجئين الذين نتعاطف معهم، بالضرورة، انسانيا ووجدانيا، وحتى قومياً اذا شئتم ( مع اننا قلنا ان القومية العربية لم تعد تصلح علفاً للدجاج)، ولكن ماذا عندما تنتقل تورا بورا الى بعض المخيمات، وحين يهرع آلاف اللاجئين الى عتبة ذلك الشيخ السلفي او ذاك للثأر في لبنان مما يحدث في سوريا؟
يقول لنا مرجع سياسي «لم اكن اتصور ان التقارير الامنية يمكن ان تحتوي على مثل هذه الاهوال». لوائح طويلة بالتفجيرات وبالاغتيالات التي تلحظ حتى شخصيات سنية عرفت بابتعادها عن لغة الدم وعن لعبة الدم، فإلى اين نحن ذاهبون حين نعلن عجزنا عن تشكيل حكومة، مجرد حكومة وسط الزلزال، وحين يكون هناك من يلوح بحكومة الامر الواقع كما لو ان المسألة آنية الى هذا الحد، وهامشية الى هذا الحد، ولا تعكس خللاً بنيوياً مدمراً زادته كارثية التفاعلات المذهبية في سوريا والمنطقة..
في لبنان، لنقل: دولة ينشئها المسيحيون ويزيلها المسلمون، لا بل اننا نسمع من شيخ سلفي ان لبنان بدعة (لا اعجوبة) تم تركيبها في قصر فرساي قبل ان يعلن قيامها بطل المارن الجنرال هنري غورو على درج قصر الصنوبر. ولكن اليس المسيحيون شركاء في التواطؤ من اجل ازالة الدولة، ولمصلحة من في هذه اللحظة التلمودية، اذا ما اخذنا بالاعتبار ما يكتب في المعاهد الاستراتيجية الاسرائيلية حول بعثرة الخرائط، وبعثرة الدول، وبعثرة المجتمعات…
ثمة جمهورية في مهب الريح. نخشى ان تغدو في مهب الدم. لا افق في المنطقة على الاقل في المدى القريب. الهوة بين وليد المعلم واحمد الجربا ام بين باراك اوباما و فلاديمير بوتين (ام بين الارض والسماء؟).
لا بل ان المنطقة كلها في مهب الريح، حين يقال لنا، ومن جهات موثوقة في القاهرة، ان «الاخوان المسلمين» كانوا يعدون العدة للسيطرة على مناطق في الصعيد، بالتزامن مع تحركات في الاسكندرية تتقاطع مع موجة من الفوضى في المدن المشاطئة لقناة السويس. الهدف اقامة دولة في مواجهة دولة عبد الفتاح السيسي..
لكنها عدوى الاقليم. هذا الوباء الذي بدأ في العراق لا صلة له بالمفاهيم الحديثة، والديناميكية، للدولة التي تتمحور انشطتها حول جدلية الانماء بكل وجوهه. الآن اقاليم في اليمن تثير غضب اهل الجنوب الذين يسعون لدولة مستقلة، وغدا اقاليم في سوريا تمهد للتجزئة، وبدفع خارجي لم يعد خافيا على احد، فهل يصلح لبنان بتلك المساحة المجهرية لكي يتحول الى اقاليم بعدما شاع طويلا مصطلح الكانتونات تمثلاً بالنموذج السويسري، فإذا بنا نأخذ بالمثال اليمني الذي نخشى ان يقود اليمن السعيد (بشقائه) الى المثال الصومالي…
تلك اللحظة البانورامية التي امامنا، وبكل احتمالاتها التراجيدية، لا تهز الطبقة السياسية عندنا (الشعب هنا مصطلح عبثي)، فهل ترانا نأخذ بما كتبه ارنولد توينبي منذ نصف قرن تقريبا حول تلك المجتمعات التي اذ تعيش على حافة الغيب فكما لو انها تعيش على حافة المجهول..
المؤرخ البريطاني الفذ رأى منذ نصف قرن اكثر بكثير مما نرى الآن!!