د.نعمه العبادي- العراق
أثار الشهيد السعيد محمد الصدر (قدس سره) المميز بشكله وصوته وسيرته، الكثير من الجدل والخلاف والاختلاف وحتى الصراع في حياته وبعد شهادته في 19/2/1999، وكان معظم هذا الجدل ذاتياً شخصياً، وحتى ما كان موضوعياً تسرب إليه الكثير من الشخصي مما جعل دائرة النقاش حادة وأقصائية حد المحو والازالة، ولون صورة (المع والضد) بألوان فاقعة، وقلما توجد بينهم مناطق وسطى.
بحسب فهمي، ان جوهر اختلاف الشهيد الصدر يكمن في نحو من الرؤى الكبرى والمصيرية التي يؤمن بها، والتي جعلها حاكمة على ما دونها من تفصيلات وقضايا اجرائية، وتلك الرؤى تتعلق بفهم خاص لمسيرة الحياة وحركة الكون ومكانة الدين في الحياة وعلاقة الذاتي بالموضوعي، ولطالما كانت النقاشات فيه وحوله في دائرة التفاصيل والاجرائيات، ولم ترق الى مرحلة الاصول والجذور، الامر الذي جعل الكثير منها غير منتج ولا مدرك لبواطن الامور.
ان الخطوط الكبرى الحاكمة على المسارين الفكري والعملي للشهيد الصدر، والتي شكلت معالم خصوصيته، تتمثل في الآتي:
١- ان المستقبل محكوم بصورة ربانية مخططة واضحة ومحددة (وهنا لا أعني عالم الآخرة)، وان هذه الصورة المحددة حاكمة على مسار الحاضر والماضي على الرغم من كونها تظهر للوهلة الاولى كنتاج طبيعي لتأسيسات الماضي ومعطيات الواقع إلا انها عند الصدر خلاف ذلك، لذلك هو منشد بكل توجهاته وتفسيره للوقائع ورسمه للخطوات الذاتية والموضوعية على اساس حاكمية هذه الصورة التي لا بد من تحققها وتحقيقها.
٢- ان المسؤولية تجاه تحقيق هذه الصورة ابعد من كونها مسؤولية شرعية (بالمنظور الفقهي)، بل هي متطلب كوني وجودي، وهي من جهة اخرى مسؤولية اخلاقية تتعلق بالموقف الاخلاقي بين الخالق والمخلوق، وان هذه المسؤولية لها خطابان فردي وجماعي، ويتداخل الفردي بالجماعي، فلا يمكن انجاز التكليف الفردي إلا في ظل سياق استجابة جماعية والعكس صحيح.
٣- ان الدين وان كان عماده الظاهري الركنين العقدي والعبادي إلا ان جوهر ومرتكز العقيدة والعبادة يقوم على الاساس الاخلاقي، بمعنى ان الاخلاق بوصفها العميق، والتي تعني بعبارة جامعة (التأدب بين يدي الخالق والتلطف بين يدي المخلوق)، هي الخيط الذي ينبغي ان تنسج حوله العقيدة والشريعة، وهي الحاكمة عليهما.
٤- على الرغم من ان الصورة المستقبلية المحددة للمستقبل قائمة بشكل دقيق على النخبة بالمنظور الرباني إلا ان هذا الانجاز لن يتم إلا عبر القاعدة، والتي تعني المجموع العام، لذا فإن الاهتمام بالقاعدة العامة بكل مستوياتها أمر ضروري ومهم لا مناص من تحقيقه، ومن هنا جاء ايمانه بالقاعدة وافرادها.
٥- ان الخط المضاد والمواجه للنظرة المستقبلية المحددة لا يكتفي بحدود وضع النظرية والافكار اللازمة للمواجهة، بل هو منخرط في الممارسة العملية اشرافا وتنفيذا، ولذا فان الخط المسؤول عن تحقق هذه الصورة ينبغي ان يكون اكثر انخراطاً في الجانبين النظري والعملي، ولهذا برزت اهمية الممارسات الاجرائية في حياته، ووجد نفسه مسؤولا حتى عن تلقين الشعارات والعبارات والمواقف وطريقة التصرف والتعاطي مع الحدث اليومي.
٦- آمن الصدر عميقاً بأن الصورة المستقبلية المحددة مشروطة بجغرافية خاصة، وهي (العراق) حصراً، ولا مجال لأي جغرافية بديلة مهما كانت قيمتها الاعتبارية والمعنوية، لذا فإن اهمية وقداسة وفردانية العراق أتت من ارتباطه الوثيق بهذه الصورة المستقبلية العليا، ومن هنا فإن موقفه من هذه الارض يتعدى البعد الوطني والاخلاقي والعقائدي، ويتحرك في ظل لزومية وجودية ربانية صارمة.
٧- يؤمن بأنه محل لخطاب خاص يتصل بما ينبغي عليه انجازه من متطلبات هذه الصورة المستقبلية، الامر الذي جعله في صدام مع اكثر من حالة وموقف واتجاه لا يؤمن بخصوصية هذا الخطاب.
ان هذه الثوابت الكبرى التي حضرت في وجدان الشهيد الصدر وحركته، رسمت له خطا بيانيا مملوءاً بمحاولات (القتل المتعددة)، لذا فإن عدد شهادات الصدر بقدر تلك (المقاتل المتعددة)، والعملية مستمرة ولم تنتهي بتصفيته جسدياً في ظل عملية (قزمة) انطلقت لأستئصاله نيابة عن موقف شيطاني كوني يقود خط المواجهة لمسار الصورة الربانية المستقبلية.
كثيرون هم الذين ينسبون انفسهم إلى الصدر بعناوين مختلفة إلا ان المدركين لحقيقة الصدر اندر من الكبريت الاحمر، ومن المؤسف، ان الكثير ممن ينسب نفسه إليه منخرط في خطوط مواجهته وتقويض قضاياه من حيث يحتسب او لا يحتسب.