محمد الماغوط، شاعر التمرد الأميز، ملك الكلمة الساخرة بلا منازع. أوصلته قصائده الأولى المنشورة، ومن ثم دواوينه الشعرية الثلاثة الأولى إلى قمة الشهرة، قبل أن يلج عالم المسرح والسينما وتتخاطفه الصحافة، ويحلم رجال الإعلام بحوار يجرونه معه بأي شكل.
شاعر تحار عندما تقرر الكتابة عنه، من اين ستبدأ..؟ وكيف ستنصف هذا المبدع الكبير..؟
وأي نوع من الإنصاف ينتظر منك إذا كانت سخرية العارف التي عرفها الناس في أشعاره، عادت لترحل إليهم وهم في بيوتهم عبر مسرحيات وأعمال سينمائية وتلفزيونية..؟
هو شاعر النثريين ونثري الشعراء، وقد أعلن مراراً أنه يكتب وليسموا كتاباته ما يشاؤون بعد ذلك.
خيال خصب وحزن وانكسار مزمن وكلمة ناضجة. شاعر متمرد وعاشق غجري، اختار الوعورة فما هابها، وأفلح إذ جذبته القمم فوقف على هامتها. الحزن في كل مكان، وهموم الوطن تعبر مفردات الشاعر من أقصاها إلى أقصاها، والسخرية والتسكع والأرصفة والجوع وصور البؤس التي تومض هنا وهناك. ريح وأوراق ممزقة، وحل وأحذية مثقوبة، مطر حزين، لفافة تبغ مائلة، سيول وعواصف وجلادون..
إن نظرة في عناوين مجموعاته الشعرية، يدخلك في جملة تساؤلات، في صور متشابكة، في دائرة الاحتمالات، في حالة من التشوه أو الضياع أو الترقب (حزن في ضوء القمر ـ غرفة بملايين الجدران ـ الفرح ليس مهنتي ـ سياف الزهور) وعندما تبدأ رحلة العبور فيها، تصاب بحالة ذهول أو لعلها حالة مس أو جنون ماغوطية، تصاب بها في كل مرة تقرأ فيها قصائد الماغوط مهما تعددت مرات القراءة، تقاربت أو تباعدت، تجزأت أو تكاملت. المهم أن تعيش الحالة التي يدفعك إليها بلا مقدمات، فما اعتاد أن يمهد أو يناور، وهذا سر من أسرار الإبداع المميز عند شاعر انطلق من بيت متسلخ أصفر في مدينة الدموع والرعب والغبار " سلمية " إلى الأرصفة الحالمة في شوارع بيروت ودمشق، إلى حيث انطلق به الهم والحزن والإنكسار إلى أرصفة الحالمين في شوارع مدن عالمنا البائس.
في حوار أجرته معه جريدة تشرين السورية عام 1977، ورداً على سؤال يتعلق بأسباب الكتابة المبكرة في سن مبكرة عنده قال: (كان عمري عشر سنوات، عندما كنت في القرية شاهدت رجلاً يركب حصاناً أسود، وعندما كان يضرب الحصان بالسوط، كان يصيب الناس من حوله).
ولد أديبنا الكبير عام 1934 وبدأ الكتابة في الأربعينيات، وفي بداية الخمسينيات نشر أشعاره في صحيفة البناء في دمشق، ثم مجلة شعر في بيروت. ويذكر الشاعر اسماعيل عامود أن الماغوط نشر أشعاره الأولى عام 1951 في مجلة الجندي السورية مع أدونيس الذي كان يعمل محرراً فيها.
ويعتبر الماغوط أهم من أسس لقصيدة النثر وواحد من كثيرين ألقوا حجراً في مستنقع اللغة الراكد، وقد ظل يكرر:
ـ لقد مللت الالتزام بآداب المائدة وآداب الجلوس وآداب المحادثة وقواعد المرور وقواعد اللغة.
كم أتمنى نصب الفاعل ورفع المفعول وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وتعريف النكرة وإنكار المعرفة.. لقد مللت الصواب واشتقت للخطأ.
قال عنه الأديب الياس مسوح: الماغوط أحد أطول قامات الشعر في كل العصور. وذكر في أكثر من لقاء معه أن بداياته الأدبية الحقيقية كانت في السجن، وأن معظم الأشياء التي أحبها أو اشتهاها وحلم بها رآها من وراء القضبان: المرأة ـ الحرية ـ الأفق. وأن تجربة السجن فجرت طاقته الشعرية الكامنة ومحاولاته الكتابية الأولى.
ويقول أيضاً أن الكتابة مهمة عنده وأنه يضيع خارج دفاتره ويخاف من الورقة البيضاء أكثر من أي شيء. وقد بدؤوا منذ الخمسينات ينقلون أشعاره إلى لغات أخرى، وصدرت بعد ذلك ترجمات عديدة له بالإنكليزية والفرنسية والفارسية والإسبانية والألمانية والنروجية. وعندما سأله أنسي الحاج في حوار معه عام 1966:
ماذا تشتهي الآن..؟ قال: الموت على ركبة امرأة عجوز في الصحراء.
وعندما سألوه ماذا يملك قال: لا أملك حتى طفولتي وذكرياتي.. لا أملك سوى أخطائي.. وأن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أنني تقدمت في العمر.
وتقول الشاعرة الراحلة سنية صالح " زوجة الشاعر " في مقدمتها لأعماله الكاملة الصادرة عن دار العودة ببيروت عام 1981: (مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط). ويقول الشاعر في حوار معه: أمي أعطتني الحس الساخر، الصدق، السذاجة في رؤية العالم. وعندما ترك دراسة الزراعة، علل ذلك بقوله: أحسست أنه ليس اختصاصي الحشرات الزراعية بل الحشرات البشرية.
وعندما تتزامن فترات الخصب عند الشاعر مع الأزمات، وفق ماروته زوجته الراحلة، وما أكثرها في منطقة كالشرق الأوسط.. وما أسرع ما يتفاعل شخص كالماغوط مع هموم الوطن.. فمن الطبيعي أن تأخذ أشعاره طابع السخرية اللاذعة التي اشتهر بها وعرفت الآخرين به، منذ أن فاجأ أدونيس مجموعة أدباء مجلة شعر بإبداعه المتميز.
أعمال محمد الماغوط (1934- 2006 )
أهم أعماله في الشعر : حزن في ضوء القمر – غرفة بملايين الجدران – الفرح ليس مهنتي – سياف الزهور .
في النصوص النثرية : شرق عدن غرب الله – البدوي الأحمر .
في المقالة الصحفية : سأخون وطني .
في الرواية : الأرجوحة .
في المسرح : العصفور الأحدب – المهرج – ضيعة تشرين – غربة – المارسيليز العربي – كاسك يا وطن – شقائق النعمان – خارج السرب .
في السينما : الحدود – التقرير .
في التلفزيون : أبو الفتح الإسكندراني – مجلة الهموم – حكايا الليل – وداعاً أيها الغريب – وين الغلط – وادي المسك .
وقد ذكر في مقابلاته الأخيرة أنه بصدد إصدار عمل بعنوان ( عواء الشعوب بالمقلوب ) لكن الموت عاجله ورحل بتاريخ 3 نيسان 2006
محمد عزوز
جزء من الفصل الخاص بالشاعر
في كتابي ( شعراء سلمية ) ج1 2010