الكتاب الذي أصدره الأستاذ هاشم صالح "الإنتفاضات العربية في ضوء فلسفة التاريخ" لا يتمايز عن مقاربات المثقفين العرب المأخوذين بما قرأوه من فلسفات غربية يسقطونها على واقعنا العربي اسقاطا ميكانيكيا، غير آخذين بالإختلافات الثقافية والمجتمعية والبنيوية لمجتمعاتنا، ولما تحتويه من خصائص قد تضع بعض المفاهيم الفلسفية التي يتبنونها خارج السياق العلاجي لبنية مجتمعاتنا الإجتماعية والسياسية والتاريخية، فما يجري من انتفاضات و(حراكات) في المنطقة العربية لا ينبغي مقاربته من مناظير ثقافية وفلسفية تستند الى قراءات أو نظريات لفلاسفة كبار فحسب، لأنهم بذلك يغفلون الخصوصية المشرقية من جهة، والظروف السياسية وما تعانيه المنطقة من "إستعمارات" مباشرة او مقنعة من جهة اخرى، ما يجعل تدخلها في صياغة التاريخ والنتائج أمرا حتميا. فقد اعتدنا ان يقارب العديد من المثقفين اللبنانيين والعرب ما يجري من انتفاضات و(حراكات) من مناظير ثقافية وفلسفية تستند الى ما قرأوه من نظريات لفلاسفة كبار، فيباركونها ويتبنونها دون التدقيق بمضامينها ومدى انطباقها على واقعنا العربي والمشرقي، وهذا ما حصل حيال كتاب الأستاذ هاشم صالح. في كتاب "الإنتفاضات العربية في ضوء فلسفة التاريخ" يخلص الكاتب الى تبني رؤية هيغل التفاؤلية للتاريخ بشكل ميكانيكي، ويبني عليها رؤيته التحليلية للواقع المعاش في المنطقة، ما يعني اسقاطا فوقيا للنظرية بغض النظر عن دراسة مدى الإنطباق والملائمة، حيث لا يمكن اعتبار ان كل حيويات المجتمعات تتشابه سواء من حيث الفعل او النتائج، وقد جاراه في هذه الرؤية الأستاذ كرم حلو في صحيفة "السفير" حيث رأى الأستاذ حلو ان الكتاب يمثل "قراءة فلسفية جديدة للإنتفاضات العربية" وهي "قراءة على الضد من القراءات المتسرعة المتفائلة والمتشائمة على السواء، وان الثورة الفكرية هي التي تمهد للثورة السياسية"؟.
حبذا لو يخبرنا الكاتب عن الثورة الفكرية لـ"داعش" و"جبهة النصرة" و "احرار الشام" وعن الرصيد الفكري والثقافي لهؤلاء الذين يعيدوننا الى الماضي لا القطيعة معه كما يقول. قد لا نكون بحاجة لمزيد من الوقت لتقييم ما ستؤول اليه الأوضاع في سوريا، والوقوف امام تحليل وإستنتاج نتائج التحولات الدراماتيكية التي انحدر اليها المجتمع السوري بغالبيته، من انقسام وإضطراب وإحتراب، رغم ان الصورة اليومية تتحدث عن نفسها بغير لبس، فهل المشكلة في ما يجري تراوح حول تعيين معايير الثورة الفكرية التي لم يتبين لها لا فكر ولا برنامج على مدى السنواث الثلات من عمرها؟!.
يرى هيغل "ان التاريخ عقلاني على الرغم من انه يبدو لنا فوضويا مليئا بالحروب والظلم والقهر والتناقضات"، والعقل برأي هيغل "هو الذي يحكم العالم والتاريخ" طبقا لرؤيته التفاؤلية للتاريخ، ويرى ان "التاريخ كان وسيبقى عقلانيا رغم المظاهر الخادعة والفظائع الجنونية التي قد توهم بالعكس"؟!!. والتاريخ أيضا طبقا لرأي هيغل يسير باتجاه الوعي بالذات، بما يجعل الإنسان حرا؟
وهذه الإشكالية الفكرية تحتاج للكثير من النقاش، فلا يمكن تعميمها او اعطائها الصفة الإطلاقية، فبينما يرى هيغل ان مسيرة التاريخ الكوني مسيرة عقلانية، وان العقل هو المنتصر في نهاية المطاف؟، نرى ان الكثير من المجازر والحروب حدثت خارج مسيرة العقل والمنطق، أي خارج مسيرة عقلانية التاريخ. ما يراه هيغل استنادا الى قراءته للتجربة الأوروبية لا يمكن تعميمه على الواقع العربي لإختلافات ثقافية وبنيوية ما زالت غير ناضجة في مجتمعاتنا، ولمنهجية تتعلق بالبيئة والموروث الثقافي والإجتماعي والفكري، فما زالت على سبيل المثال بعض العادات الجاهلية تحكم الكثير من عقولنا رغم انقضاء اكثر من الف واربعمائة سنة على تسفيهها.
حتى في بعض الغرب لا زالت الإستثناءات قائمة، فلست ادري الى أي مدى تنطبق فلسفة هيغل على جورج بوش الإبن في تاريخنا المعاصر على سبيل المثال؟، ربما يستند هيغل في تحليله الفلسفي الى التجربة الأوروبية وما تطورت اليه من حالة تنويرية بعد انقضاء الحقبة الظلامية التي عاشتها في القرون الوسطى، إبان الصراع مع الأصولية المسيحية التي كانت الحاجز الرئيس للتطور، حيث تبين له ان دولة القانون والمؤسسات والعدل والمساواة لا تتحقق الا بعد المرور بمرحلة "الفوضى الخلاقة" المدمرة، وهذا ما جعل العديد من مثقفينا يتبنون نظرية هيغل في مقارباتهم للحراكات التي شهدها العالم العربي، على قاعدة تدمير أسس النظم القديمة مهما كلف ذلك من تضحيات، أملا بانتاج نظم جديدة تحقق العدل والمساواة، المعزوفة التي غدت ممجوجة، حريات وديمقراطية وتداول سلطة وهي "التيمة" التي طالما تغنى بها الغرب كذبا في مقارباته لقضايانا، وهي رؤية مجزوءة وقع فيها بعض مثقفينا للهروب من التحليل المنهجي والموضوعي الذي قد يضعهم في مواجهة مع بعض الثقافات الغربية التي ينظرون اليها على انها نقطة التميز عن البيئة التي يعيشون، هي رؤية مجتزأة لأنها تغفل التدخل الخارجي الذي لم تشهده اوروبا في صراعاتها، من انتاج الحراكات وتوجيهها وفقا لمصالحه وليس وفقا لمصالحنا الموضوعية، فتدمير البنى المجتمعية والنسيج الإجتماعي في منطقتنا يتم بهدف تأكيد سيطرة الخارج الإستعماري على مجتمعاتنا وثرواتنا ومقدراتنا خدمة لمشاريعه الإستعمارية وليس تحقيقا للعدل والمساواة والحريات العامة، بدليل ان كافة الحراكات التي حصلت وقعت في الدول الأقل دكتاتورية من حلفاء صاحب الدعوة، مثل العراق واليمن وليبيا ومصر وتونس وسوريا وهي بمجملها اقل دكتاتورية من الدول الخليجية الحليفة للمحرك الإستعماري؟؟، والمفكرون الأميركيون عندما استخدموا المصطلح الهيغلي "الفوضى الخلاقة" إستخدموه للعبث بوطننا العربي بما يتجاوز استنتاجات هيغل بالنسبة لأوروبا، فلو اردنا قياس النظرية الهيغلية على الواقع العربي من حيث "ان السلبي المدمر قد يكون مدخلا للإيجابي"؟، لأضطررنا الوقوف امام التاريخ العربي والإسلامي منذ قرون ولغاية تاريخه، حيث دلت تطوراته على انه يخالف السياق الهيغلي، ربما لخلل "جيني"، او ربما لإختلاف البنى المجتمعية والثقافية والسياسية والموروث الثقافي والسياسي والإجتماعي، رغم ان المقولة الهيغلية تأتي منسجمة مع المقولة الأنتروبولوجية التي تقول "ان كل الشعوب ينبغي ان تمر بنفس مراحل التطور لتصل الى نفس مستوى التطور"؟.
إذا كانت الثورات المدمرة التي ينتج عنها مآس انسانية فظيعة بحسب هيغل ينبغي ان تؤدي الى حالة تنويرية في المجتمع، والى بنى جديدة وجيدة تأتي على انقاض الدمار، فإن ما حصل في الوطن العربي يقودنا الى إستنتاجات معاكسة تماما ما يعني ان نظرية هيغل ليست اكثر من تجريدات نظرية، لا يمكن ان تكون مطلقة، فما بال هذه النظرية لا تستقيم مع الواقع العربي والإسلامي الذي شهد مئات المذابح وشلالات من الدم لتنتج دائما ما هو اسوأ؟؟، بدءا من ثورة الحسين بن علي ومرورا بتأسيس دولة الإسلام في الأندلس عندما كانت اوروبا غارقة في الظلامية، لتنتهي بتنوير اوروبا وتخلف العرب والمسلمين، ومرورا بالدولة العباسية التي اشاعت في بعض حقباتها الثقافة والتنوير إبان حقبة الترجمة والتعريب لتنتهي بحالات قمع ومذابح ودكتاتورية، ومرورا بحقبات المماليك والأيوبيين والسلاجقة والعثمانيين حيث ركزت كل تلك الحقبات على قمع وذبح فئة او طائفة بعينها كانت هي الثائرة على الدوام، لكنها كانت على الدوام عاجزة عن انتاج ما هو افضل وارقى ثقافيا وسياسيا ودينيا واجتماعيا. واذا اردنا تجاوز التاريخ العربي والإسلامي السحيق والإنتقال الى المعاصر فإن حركات تنويرية ونهضوية عدة قومية وثقافية على المستويين الديني والسياسي شهدها العالم العربي قادها طليعيون كثر، أمثال محمد عبدو، وجمال الدين الأفغاني، وعلي عبد الرازق، وعبد الرحمن الكواكبي، الذي قرأه عبد الناصر على اضواء الشموع وكان محاصر في الفلوجة في فلسطين، وقاسم أمين ورواد النهضة وغيرهم المئات من رواد الثقافة السياسية والثقافية والدينية المستنيرة والإجتماعية، لكنها كلها اثبتت عجزها امام المشاريع الإستعمارية التي إخترقت المجتمعات العربية بحالات اصولية متخلفة ومتجذرة وتعمل في خدمة المستعمر واجنداته، والمذابح التي شهدها ويشهدها بعض اجزاء الوطن العربي مثالا فاقعا على ذلك الفشل.
يرى بعض مثقفينا استنادا الى النظرية الهيغلية حول ديالكتيكية التاريخ وقوانيها "العظيمة" ان عذابات الشعوب وتضحياتها لن تذهب سدى، وان الإكتواء بنار الأصولية هو الذي سيحررها منها لاحقا، وان الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والمذابح وشلالات الدم ما هي الا "المواد الخام" التي يستخدمها العقل لكي يحقق مبتغاه عن طريق اللاعقل؟ انها النظرة التبسيطية التي تقارب الأمور انطلاقا من تجريدات نظرية ليس الا، مشيحين بنظرهم عن العوامل الأخرى الخارجية التي تدير العملية انطلاقا من مصالحها الإستعمارية، وبادوات داخلية عميلة تعمل لصالحها، فلا مصالح المجتمع العربي في التحرر والديمقراطية والعدل الهم او الهاجس لهؤلاء، لأنه إن تحقق فعلا فإن مصالح المستعمر ستكون هي المهددة بالدرجة الأولى.
الكاتب: ناجي صفا