من اجل اعادة بناء العلاقة بين مفردات المشروع العربي مدخل يبدو العنوان محمولا على مفارقة يعسر تجاوزها ويتبادرالى الذهن منذ الوهلة الاولى سؤال العلاقة الممكنة بين المقاومة بوصفها مفهوما يحيل على مرحلة ذات شحنة إلغائية تتقصد تجاوز الزمن الاستعماري نحو افق الاستقلال والتحرر والديمقراطية بحسبانها مفهوما يحيل على البناء بمعنى ترسيخ نظام سياسي يدير الاختلاف ويمنع تحول الصراع الى الطور المتوحش ان المفارقة تبدو واضحة اذا انطلقنا من افق النظر التقليدي الذي رسخ التعارض عبر اشتغاله على المقولات المنطقية الصورية في سيرورة تأملية بعيدة عن حيوية الواقع ونمط العلاقة المركبة بين مكوناته تلك العلاقة التي لا تستطيع كل المقاربات التبسيطية ان تستوعبها وخاصة تلك الهائمة في بحر التعالي على صخب الواقع اننا نسعى من خلال هذه الورقة الى فتح مجرى جديد امام النظر والعمل كليهما وفتح افق ارحب امام استعصاء تاريخي طال المشروع العربي في كل بنوده ومفرداته ولن يتسنى ذلك إلا عبر البحث من داخل السياق التاريخي ومضمار الفعل عن تشخيص دقيق للديمقراطية لا في اطارها المفهومي العام بل عن الديمقراطية في صيغتها المسوقة الآن وهنا وعن استتباعات تطبيقها انطلاقا من المعطيات الخبرية الامبريقية وتشخيص دقيق لواقع المقاومة ونتائج المراكمة التاريخية في هذا الحقل ومن ثم يمكننا بناء النظر انطلاقا من حيثيات الواقع ورهانات المشروع العربي ) الديمقراطيةونموذج التفتيت 1
ان الديمقراطية في مفهومها العام نظام للحكم وهي كغيرها من الانظمة منتوج تاريخي وليست تنزيلا من السماء وليست مفهوما متعاليا على تعقيدات الواقع بكل حيثياته الثقافية والفكرية والروحية وغيرها من الحيثيات التي تشكل هوية المجتمع هذه التاريخية تخرجها من اطار المطلقات الى دائرة النسبي وتلغي ايحاء التقديس الذي يرافق اغلب الاقاويل التي تصاغ في شانها خاصة تلك التي تصدر عن الفاعلين السياسيين في اطار السجال ذي الطابع النضالي المباشر الذي كاد يحول هذه الديمقراطية الى ايقونة سحرية او تميمة او مفتاح سحري لحل كل ازمة الحضارة العربية ذات الابعاد المتشابكة والمعقدة ومما لاريب فيه ان هذا التناول المؤسطر والتقديسي للديمقراطية انتج طبقة سميكة تحول دون انتاج مقاربة عقلانية متواضعة لا تغادر اطار النظر النسبي وهو ما يشكل المفارقة الكبرى او المغالطة الاكبر فالديمقراطية كما يجمع اغلب المفكرين هي الاكثر تواضعا من الناحية النظرية لان مجالها الارحب هو التطبيق او المجال العملي وهذه المفارقة تكشف عن الغاية الحقيقية من انتفاخ الخطاب حول الديمقراطية وتحويلها من الانساني النسبي القائم على النقد ومعاودة النظر الى المقدس والرومنسي فالامر في نظرنا يتعلق بالغاء العقل واشعال حرائق العواطف لغايات تدميرية وهذا يستدعي منا القاء نظرة على الديمقراطية بوصفها نموذجا اريد تسويقه في الوطن العربي ومفاعيل هذا التطبيق وعلى النتائج تقاس الاشياء لقد برز منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وتدشين العالم مرحلة القطبية الاحادية توسع واضح في المتن الديمقراطي على اعتبار الانتصار المظفر لليبرالية كما زعم منظروها ومن ثم بدأ مسار تصدير الايديولوجيا المنتصرة في مسعى لامركة العالم وهيمنة منطق السوق والفكر النيوليبرالي في سياق هذا النزوع نحو الهيمنة على العالم يمكن ان نفهم رهانات هذا التوسع في الخطاب الاحتفالي بالديمقراطية وضمن نفس السياق التاريخي نستطيع ان نحاكم نقديا الصيغ الديمقراطية التي يراد تسويقها في الوطن العربي ان الديمقراطية في بعض معانيها تعني الانتقال من الاحتكار او التسلطية كما يقول بعض المفكرين الى التنافسية وهنا لابد ان نشير الى ان التنافسية في التجارب الديمقراطية الغربية ومنذ اللحظة الاغريقية كانت محكومة بما يسمى النصاب بمعنى انها لم تكن تنافسية بإطلاق بل كانت محكومة بسقوف ومحكومة بشروط لايجوز تجاوزها من قبيل استثناء العبيد في اثينا واستثناء المرأة من حق الانتخاب في الكثير من الديمقراطيات الغربية الى حدود اواسط القرن الماضي او من قبيل عدم تهديد الامن العام والثقافة العلمانية وغيرها من الشروط التي يصاغ منها النصاب الديمقراطي وهنا يلح السؤال التالي :
هل ان الديمقراطية التي يراد تسويقها في وطننا العربي تحمل في طياتها مكونات للنصاب ام انها تنافسية سائبة منفلتة من كل عقال ؟
ان الاجابة على هذا السؤال المحوري تحددها معطيات الواقع الخبرية فكل الدول التي تم وضعها على لائحة الدمقرطة المفروضة فرضا من الخارج عرفت حالة من الاستثمار الاقصى لكل اشكال الصراع الاثني والجهوي والعقائدي والمناطقي تحت شعار الحرية للجميع حتى لمن يرفع السلاح في وجه الدولة حتى لعصابات الاغتيال حتى للافكار الشاذة التي جاوزها منطق العصر حتى للتصورات المعادية للديمقراطية وتم الاستبعاد المتعمد لمفهوم النصاب او الحيز القانوني والاخلاقي والسياسي الذي يجب ان يشتغل في اطاره كل من يريد الانتماء الى النادي الديمقراطي ان عدم تحصين هذه الديمقراطية كان لغاية زرع الفوضى والفتنة وتقويض النظام وتحويل الدول الى دول فاشلة كل ذلك تحت حجة واهية هي ضرورة المرور بتجربة الالم والمعاناة من اجل ميلاد النظام الجديد اي النظام الديمقراطي وفي ذات الاطار الامبريقي الخبري يجب التاكيد على مخرجات هذه الصيغة المسوقة صيغة الديمقراطية الفوضوية او بالعبارة الاثيرة الفوضى الخلاقة فكل الدول التي دخلت هذا المسار او التي حاولوا فرضها فيها ولم ينجحوا برزت ظواهر تضرب في العمق النسيج المجتمعي وتشكل ردة الى احقاب من التاريخ الماضي او بالاحرى تستجمع كل مظاهر التوحش التي عرفها الانسان منذ فجر التاريخ فاية علاقة بين التوحش والديمقراطية التي نشات في المجال المديني المتمدن وشكلت منعرجا نحو حسم الصراعات بعيدا عن منطق التوحش ؟
أنها ديمقراطية التفتيت والتلغيم وهدر المكاسب المتحققة من اجل تاسيس جديد يقطع مع كل التاريخ حتى مكاسبه الايجابية ويدشن بدءا صفريا هو جوهر الاغتراب عن التاريخ والواقع خدمة لرهانات الهيمنة حتى وان كان الثمن دماء الشعوب وحضاراتها وثقافاتها ..انها ديمقراطية الامركة ديمقراطية لاتقوم على نصاب حتى لا يكون للعرب اي مشروع يشكل جوهر هذا النصاب لذلك فان مدخل الديمقراطية وبالصيغة العملية التي يراد ترويجها لا ينتج في النهاية ديمقراطية بل دمارا شاملا وحرب الكل ضد الكل 2المقاومةومسارالتجميع ان المقاومة بمعناها الشامل ليست ترفا فكريا او عمليا بقدر ماهي حاجة تفرضها التحديات الفعلية لدورة التاريخ الراهنة فهذا الجسد العربي الذي لا يزال منكشفا امام ابشع مظاهر الاستعمار والهيمنة ما كان منها خشنا او ناعما يحتاج الى فعل مقاوم ليسترد ارضه وإرادته كمقدمة ضرورية لتظهير حالة نهوض حقيقي فواقع التجربة يكشف كل يوم ان الاستعمار وخاصة في صيغته الصهيونية يقوم بالاضافة الى دوره الاستعماري بتخريب كل محاولة للتنمية او التقدم على مختلف الاصعدة حتى على صعيد اطلاح النظام السياسي وهو مايستوجب قيام المشروع الوطني والقومي العربي على اولوية المقاومة بحسبانها خيارا استراتيجيا وهو ما يعد امرا بديهيا لكن ماهو غير بديهي هو العلاقة الممكنة بين الديمقراطية والمقاومة ان الديمقراطية كما اسلفنا القول لا تتأسس على الفراغ بل يؤطرها نصاب تحدده الظروف التاريخية للمجتمع وجملة التحديات والاستحقاقات المفروضة عليه وفي الاطار العربي يمكن ان يتشكل هذا النصاب موضوعيا من العناصر التالية : –
الايديولوجيا الوطنية : في واقع الصراع الدولي الراهن وموقع الوطن العربي ضمنه لا شك ان الايديولوجيا الوطنية تبقى فاعلة هذه الايديولوجيا تعني ببساطة رفض الاحتلال والانخراط في دحره ورفض التفريط في القرار الوطني المستقل ومحاولة اجتراح مسار خاص في التطور بعيدا عن كل املاء او اسقاط خارجي ومن مخرجات هذا العنصر انه لايصح في وطننا العربي التنافس بين مشروع وطني ومشروع غير وطني بل لابد ان يكون التنافس بين فرقاء لايختلفون حول البرنامج الوطني –
التعايش او الوجود معا : ان الوطن العربي يقوم على تنوع كبير ثقافيا ودينيا ومذهبيا وحتى عرقيا وهذا التنوع لا يمكن الغاؤه بجرة قلم والقفز على واقعية وجوده كما لايمكن ان يؤدي هذا التنوع الى صراع مفتوح ينتهي الى وضع حدود الدم كما يقول استراتيجيو الغرب بل يجب ضمان حد ادنى من التعايش او البحث عن الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة – ان الوطن العربي يعيش حالة من التأخر التاريخي لأسباب داخلية وخارجية وهو ما يفرض اجتراح مشروع للتقدم يحول الذات العربية الى ذات فاعلة داخل المسار العام للتقدم ان هذه العناصر نراها في ضوء واقعنا التاريخي الملموس وبعيدا عن كل هوس تأملي الادنى الضروري لتشكيل نصاب يمكن عبره تدشين حالة من الدمقرطة والتنافسية الايجابية واذا عدنا الى تاريخ المراكمة الذي نشأ عن الفعل داخل سيرورة المقاومة فإننا نقف على الحقائق التالية :
– لقد استطاعت المقاومة عبر مسار من النضج الصاعد تشكيل وعي يقوم على اولوية صيانة الاوطان واعتبار ذلك خطا احمر وكافحت هذه المقاومة لتظهير الايديولوجيا الوطنية وجعلها قاعدة للجمع بين كل مكونات المجتمع وتدل المعطيات الواقعية ان اغلب تيارات الامة منخرطة ضمن الفعل المقاوم وعلى الضد من الديمقراطية التفتيتية التي تستجلب الصراع بين المتدين والعلماني بين العروبي وااليساري بين الاسلامي والليبرالي فان المقاومة نجحت في خلق روح من الاخوة والرفاقية بين الجميع على قاعدة الوطن اولا -نجحت المقاومة في خلق حالة من الوئام بين المختلفين اثنيا ودينيا ومذهبيا اذ ينخرط فيها المسلم والمسيحي وغير الديانين كما ينخرط فيها السني والشيعي وغيرهما من المذاهب على قاعدة ان الجميع اخوة في كنف الوطن بل ان المقاومة كانت في مثل الحالة اللبنانية صمام امان امام تفجر الصراعات الطائفية نظرا الى ما راكمته من رصانة كانت النتيجة الضرورية للتمسك بوحدة الوطن فالمقاومة حققت مكاسب كبيرة على صعيد توفير مناخ العيش المشترك –
لم ترتبط المقاومة بسياقات ماقبل الدولة بل راهنت على دور الدول وكانت ظهيرا لها ولم تكن منافسا وهو ما ولد تطورا في التمثل حيث ان الجميع يؤمن بالدولة كاطار تاريخي لتظهير اي مشروع مجتمعي على عكس الجماعات الماضوية التي يقوم مشروعها على تجاوز ارتدادي للدولة فالمقاومة تشتغل في سياق التقدم وتجاوز حالة التأخر التاريخي ان المقاومة بما راكمته من مكاسب على صعيد ترسيخ مكونات النصاب الديمقراطي العربي هي الطريق الاكثر امانا وجدوى لتظهير مشروع ديمقراطي عربي على اعتبار ان الديمقراطية كما اسلفنا لاتعني التنافسية المطلقة وحرب الكل ضد الكل بل انها التنافس داخل حالة من الاجماع على محددات المشروع الوطني الجامع ودون ذلك تتحول الديمقراطية الى معول هدم
خاتمة :
ان الواقع العملي والتحديات الحقيقية والمهام الملحة في الآن والهنا هي وحدها الكفيلة ببناء رؤية صالحة لمجتمعنا بعيدا عن النظريات الجوفاء المغردة خارج التاريخ الحي وبعيدا عن التناول التجزيئي لمفردات المشروع العربي وبهذ الرؤية وضدا للتصور المنطقي الصوري لاتبدو المقاومة نقيضا للديمقراطية بل هي مهادها الطبيعي ومن هذا المنطلق يمكن ان نقول قولا قد تستغربه العقول المقولبة المنمذجة : ان الديمقراطية مدخل للتفتيت وان المقاومة مدخل لديمقراطية قابلة للحياة وان الديمقراطية العربية لا تحيا الا من انفاس الحياة الخضراء ذاتها
عبد الفتاح الكحولي : كاتب وباحث من تونس