لو أنك كنت إسرائيلياً لبدت لك الحياة مجموعة من المفاجآت السارة، مع كل صباح هناك من يحج إلى "إسرائيل" ليقدم فروض الطاعة ويعدهم بالحماية.. ربما إلى درجة البكاء.. ها هو ذا "ماكين" المرشح الجمهوري للرئاسة يقصد "إسرائيل" ليبكي عند حائط المبكى، ثم يزور الأردن ليعلن وهو هناك أنه سيجعل القدس عاصمة أبديه لـ"إسرائيل".. قالها فى الإردن ولم يقلها في "إسرائيل"، وفي ذلك دلالات كثيرة خاصةً أنّ أحدًا لم يجبره على هذا الخيار!.. "ميركل" الألمانيه تزور "إسرائيل" لتعتذر للمرة المليون عما فعله هتلر، وتؤكد أنها خادمة "إسرائيل" للأبد!!
يقول الكاتب الساخر "إدواردو غاليانور":
"الأسواق الحرة تسمح لنا أن نقبل الأسعار المفروضة علينا، وحرية التعبير تسمح لنا أن نصغي لأولئك الذين يتحدثون باسمنا، والانتخابات الحرة تسمح لنا أن نختار المرق الذي نُؤكل به"!!
مند نشر كتاب "هل يحق لنا انتقاد "إسرائيل"؟؟" لـ"باسكال بونيفاش"، المفكر الفرنسي ورئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، خرجت قضية اتهام كل من يعادي أو ينتقد سياسة "إسرائيل" بمعاداة السامية الى النور بعد أن ظلّت طيّ الكتمان سنوات، واستخدمها الكثيرون في فرنسا كسلاح ضد كل من يدين سياسة "إسرائيل"، معتمدين على قانون "جيسو" الذي يجرم معاداة السامية والتشكيك في أحداث المحرقة النازية!
أما بالنسبة لكراهية الإسلام.. فقد دخل التعبير الجديد "إسلاموفوبيا" قاموس المفكرين الفرنسيين، إلى حد أن أعلن الكاتب الصحفي "كلود إمبير" رئيس تحرير ومؤسس مجلة لوبوان الفرنسية، أنه يشعر أحيانًا بكراهية للدين الإسلامي!… وهو ليس الوحيد من بين المثقفين الغربيين الذي وجه انتقادات مهينة للدين الإسلامي، فكتبت قبله الصحفية الايطالية "أوريانا فالاتشي" كتابها السقيم الذي يوجه كل الإهانات الى الإسلام والمسلمين في كل مكان وكل زمان، ثم الروائي الفرنسي "ميشيل هويلبرك"، الذي أهان الإسلام في أحد كتبه، وقال إنه أكثر الأديان غباءً، وبرّأته المحكمة على أساس أنّ كتابه لا يدعو إلى كراهية الدين أو إلى العنف ضده!
سوف نتحدث عن رجلين أكاديميين غربيين كرّس كل منهما قلمه وعلمه للدفاع عن قضية.. هما كرسا حياتهما لكى يثبتا أنّ "إسرائيل" دولة سفاحين تتلاعب بذكريات الهولوكوست الغامضة كي تبتز العالم، وبالتالي هما يسبحان عكس التيار تماماً.
الرجل الأول هو المؤرخ البريطاني "ديفيد إيرفنج".. إنه عالم مهم ولكن سمعته "زي الزفت" في العالم الغربي وتهمته يشيب لها الولدان ألا وهي (إنكار المحرقة)، وهي تهمة تفوق الكفر بمراحل وتعني أنك معادٍ للسامية ونازي!!
مشكلة الرجل هي أنه منذ كتابه الأول (قصف درسدن) أبدى ميلاً واضحاً إلى تبرئة النازيين من معظم ما لصق بهم من تهم، وألقى بالكثير من الجرائم على عاتق الحلفاء وخاصةً تشرشل الذي اتهمه بأنه عنصري قاسٍ وكذوب.. لهذا لم يكن هجومه على "إسرائيل" مفيداً لنا إلى هذا الحد لأنه صُنف ضمن الفكر النازي الجديد!!
أدرج الرجل ضمن قائمة ليست طويلة جداً من منكري الهولوكوست ومنهم "جارودي" و"روبير فوريسون" و"إرنست زوندل" الذي قال إيرفنج إنّ كتاباته جعلته يقتنع بعدم حدوث الهولوكوست.. كل التحاليل الكيمائية لم تثبت وجود غاز (زيكلون) في الأماكن التي يزعم اليهود أنها كانت أفران غاز.. كيف يباد ستة ملايين يهودي وبرغم هذا ما زالت أعداد الناجين من المحرقة تتزايد كل يوم؟!.. لماذا ينقل النازيون اليهود من أمستردام وبروكسل إلى معتقل "أوشفيتز" الذي يبعد خمسمائة كيلومتر لمجرد حرقهم، بينما كان يمكن عمل هذا خارج المدن التي أسروهم فيها؟!
ويقول كذلك: معسكر "أوشفيتز" كان مجرد معسكر عمل له ظروف سيئة، وقد مات الكثيرون فيه كما مات سواهم طيلة سنوات الحرب.
عندما اتهمه الكتاب الغربيون بأنه ينكر الهولوكوست استشاط غضباً، وقال: أنا لا أنكر الهولوكوست، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد شيء اسمه الهولوكوست أصلاً!!
ألقى تلك المحاضرات النارية في النمسا، هكذا صدرت أوامر اعتقال ضده… في تلك السنوات، كان إيرفنج قد صار الرجل غير المرغوب فيه رقم واحد لدى حشد من الدول، وصار من المألوف أن تصدر الصحف وعليها صورته أثناء طرده من دولة تلو الأخرى… وصدر في فرنسا أمرًا باستدعائه للمحاكمة طبقاً لقانون جيسو (Loi Gayssot) الذي يسمح لك بأن تشكّك في الله وفي المسيح لكن لا تشكك في الهولوكوست، لكن الرجل بالطبع لم يذهب لفرنسا… وسط هذا كله كان يواجه سيلاً من القضايا المرفوعة ضده حتى أنه أشهر إفلاسه عام 2002!
لقد حارب الرجل كثيراً من أجل ما يؤمن به… كانت نهاية فراره هي النمسا عام 2005، حيث تمّ اعتقاله ومحاكمته خلال أربعة أيام، وقد وجد الرجل نفسه مضطراً للاعتذار وسحب كلامه وإبداء الندم الشديد قائلاً: "الآن أعرف أنّ النازيين أحرقوا ملايين اليهود.. كنت مخطئاً عندما قلت أنه لا توجد غرف غاز.. أنا آسف يا حضرات!!".
لكن المحكمة رأت أنّ ندمه غير أصيل وغير صادق، ووصفه القاضي بعبارة قلّما نسمعها في المحاكمات قائلًا إنه "مثل عاهرة لم تغيّر أساليبها.. إنّ إيرفنج مزيف للتاريخ وليس مؤرخاً وهو يعتبر أنه لم تكن هناك محرقة ولا غرف غاز..". هكذا صدر الحكم عليه بالسجن، وقد أدهشه هذا لأنه كان واثقاً من البراءة كما قال وحجز تذكرة طائرة للندن… وقد عاد إلى آرائه القديمة بمجرد أن عرف أنّ الإنكار لا يجدي.
لقد ربحت الرقابة في العالم الغربي وأخرس مفكرًا جرؤ على إعلان رأيه.. كتب البعض على استحياءٍ عن حرية القول التي تمت مصادرتها في مجتمع ديمقراطي، لكن الجميع تنهد في ارتياح لأنّ هذا المزعج قد خرس قليلاً.
أما الرجل الثاني فهو "روجيه جارودي"، الذي كانت مواقفه ونضاله ضد الصهيونية أحد أهم معالم حياة الرجل، وقد تعرض جارودي بسبب موقفه من الصهيونية للكثير من الاضطهاد، ففي عام 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان والذي تسبب في قتل 20 ألف لبناني، نشر جارودي في صحيفة لوموند الفرنسية بياناً وقّعه مع كل من الأب "ميشال لولونج" والقس "ماتيو" أدانوا فيه السياسة الإسرائيلية، فقامت الجمعيات الصهيونية في فرنسا برفع دعوى على الثلاثة إلا أنّ المحكمة برّأتهم!!
وعندما ألف جارودي كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) قامت الجمعيات اليهودية أيضاً برفع دعوى عليه أمام المحاكم الفرنسية مستندةً على قانون جديد هو قانون "فابيوس جيسو" الذي صدر عام 1990 م والذي جعل من محكمة نورمبرج المرجع النهائي للحقيقة التاريخية بخصوص مذابح هتلر لليهود في أفران الغاز، واعتبر هذا القانون أنّ أي تشكيك في رقم 6 مليون يهودي الذين تزعم الدعاية الصهيونية مصرعهم في غرف الغاز النازية يعتبر بمثابة جريمة تستحق المحاكمة!!
كما تعرّض جارودي لتهديدات بالقتل، وكذلك تعرض للحصار الإعلامي في فرنسا وأوروبا وأمريكا، ولم يسمح له بالدفاع عن نفسه في الصحف أو التلفزيون الفرنسي، كما تعرّض ناشرو هذا الكتاب وأي ناشر آخر أو موزّع يوزع كتب جارودي للحرب سواء بالاعتداء عليهم أو على مكاتبهم أو بإفلاسهم!!
والحقيقة أنّ محاكمة جارودي، وكذلك دفاعه، وفضحه لقانون جيسو قد كشف عدداً من الحقائق، ربما تزيد على أهمية فضحه لـ"إسرائيل" وأكاذيبها في كتابه:
– فقانون جيسو الذي يجعل أي مؤرخ أو مفكر أو باحث أو حتى كاتب مقال يتعرّض للمحاكمة إذا ما شكّك في واقعة تاريخية معينة أو ما أحاط بها من شبهات أو حقيقة الأرقام والوقائع يؤكد على أنّ الديمقراطية الغربية المزعومة ما هي إلا أكذوبة كبرى، فيمكنك مثلاً أن تشكك في وجود الله في فرنسا ولا تشكك في رقم الستة ملايين ضحايا النازية من اليهود!!
– قانون جيسو وكذا محاكمة جارودي أثبتت أنّ الحضارة الغربية برمتها مزدوجة المعايير، وتضطهد العرب والمسلمين وكل ما هو غير أوروبي.
– في فرنسا بلد الثورة الفرنسية والحرية والثوار، تتم محاكمة مفكر على كتابٍ يصدره، إنّ قانون جيسو أسّس للتمييز العنصري لصالح ضحايا هتلر من اليهود فقط مستثنياً ضحايا البربريات الأخرى الاستعمارية والاستعبادية والأنظمة الشمولية ضارباً عرض الحائط بشرعة حقوق الإنسان، بل وبالدستور الفرنسي المزعوم!!
إنّ السياسات الغربية في العالم الإسلامي، والانحياز الكامل لـ"إسرائيل" وللمصالح الغربية على حساب المبادئ الإنسانية والديمقراطية، والتسبب في الكوارث والمآسي التي تنزل على رؤوس مئات الآلاف يومياً في جميع أجزاء العالم الإسلامي، هي التي تزرع بذور العنف والإرهاب والفوضى، وهي التي تخلق أرضية خصبة لنشوء ونمو الجماعات الإسلامية المسلحة.
فالعالم الإسلامي اليوم يعج بالجماعات والأحزاب التي تتبنى أساليب متعددة في تعاملها مع الأحداث، ابتداءً من الإخوان المسلمين الذي يتبنون منهج التغيير السلمي، وانتهاء بالقاعدة وداعش اللتين تتبنيان منهج التغيير العنفي.
وعليه، فإنّ الغرب مطالب بكبح جماح المؤسسات والأحزاب ووسائل الإعلام التي تبث الكراهية، وتذكي نار الحقد والفتنة بين الشعوب والأمم والأديان.. أمثال "شارلي إبيدو"!!
ولعلّ أفضل من يجسد حقيقة حرية الرأي في الغرب هو الكاتب البريطاني الكبير "جورج أورويل" الذي قال:
"الآراء التي ليس لها شعبية والحقائق التي لا يروق للبعض سماعها يتم إسكاتها دون حاجة إلى أي قرار رسمي يحظر التعبير عنها، في كل عصر وحين توجد مجموعة من الآراء التي يُفترض أن أصحاب العقول السليمة سيقبلونها بلا نقاش، وأي إنسان يحاول أن يتحدى هذه الآراء المقبولة سيجد نفسه مخرساً بكفاءة تدعو للدهشة!".
وفي النهاية فهذه الأصوات المعارضة موجودة ومنها القس "جيسي جاكسون" الذي قال: إنّ الفلسطينيين صاروا زنوج الشرق الأوسط، ومنهم "تشومسكي" العظيم!!
لكن تظل هذه الأصوات خافتة جداً عاجزة عن التأثير.. دعك من رأس الذئب الطائر المتمثل في أمثال إيرفنج الذي استمتع بالسجن لمدة ثلاث سنوات!!
ترى كم من أساتذة العالم الغربي يقبلون أن يشاركوه أكل العيش والحلاوة النمساويين في لومان فيينا؟!