يحصل في المدينة
قصة: علياء الداية *
ضيق في التنفس، وليل حالك الظلام، لم يكن أمامي سوى إضاءة المصباح اليدوي (البيل) والمفاجأة برؤية حزمة الضوء الأبيض المنبعثة منه واضحة على شكل خط ممتد من مركز المصباح إلى الحائط. "غبار! إنها عاصفة رملية". هرعت لإغلاق النوافذ رغم الطقس الصيفي القائظ وقد بدأ الغبار يغزو المنزل. قلما تتعرض مدينتي لعوامل جوية سيئة كهذه، ولكن التغيرات المناخية صارت تحمل الكثير من الغرائب، بدءاً بالبرد القارس والعواصف الثلجية، وصولاً إلى الحرارة الشديدة صيفاً بدرجات فوق المعدل بكثير، وانتهاء بالعواصف الرملية.
العاصفة الرملية حملت معها روائح غريبة أخذت تستوطن المنزل في كل زاوية تحل فيها، رائحة فنادق قديمة ومستودعات وأماكن مهملة. كان هذا غاية في الإزعاج، وشغلت حتى عن السعال بالبحث عن مكان أهرب فيه من هذه الرائحة. فتحت ستارة النافذة لأحاول الإطلالة على الشارع، لم أر شيئاً، ففتحت النافذة نفسها، ليس هناك سوى غلالة بيضاء شاحبة مغبرة، تلوح من ورائها أشباح الأشجار، السرو والصنوبر، وهياكل الأبنية المجاورة على ضفة الشارع، لكنها تبدو مكعبات يمكن تفكيكها ونقلها إلى عالم الأحلام أو الكوابيس.
فكرت أن هذا الجو ملائم لجولة يقوم بها معطف غوغول، بل إنني كنت موقناً أنه يقوم بهذه الجولة بالفعل، وربما أجده أمامي يحمل همومه ويفرغ جيوبه من بعض آلامه. ولكن أيقظني من شرودي نباح كلب. كان من المألوف أن نسمع مواء بعض القطط، وهذا المواء يشبه أصوات المواليد الجدد وصياح الأطفال، أكثر منه مواء قطط. ولكنه نباح، يبتعد تارة ويقترب تارة أخرى. كانت هناك ثلاث طرقات على بابٍ ما، تتخلل هذا النباح. غريب! لعلها طلقات بندقية بعيدة، ولكنها تكررت، ثلاث طرقات ونباح، أظن أن الحرب الدائرة في المدينة أثرت في تخيلاتي إلى حد بعيد.
كان الفجر يغري بنزهة في الشوارع الخالية من السيارات والمارة، وقررت فعلاً القيام بهذه النزهة رغم العاصفة. ارتديت ملابس فاتحة اللون حتى تصمد طويلاً فلا تظهر عليها آثار الغبار، ونزلت إلى الشارع. لم أتمكن من دعوة أصدقائي إلى هذه النزهة، أغلبهم سافروا وهاجروا، والبقية يسكنون أحياء بعيدة، وليس من السهل أن يشاركوني المفاجآت. كانت هناك موسيقا كتلك التي تنبعث من سيارة وهي تعود إلى الخلف. توقفت الموسيقا بشكل مفاجئ، ثم عادت تحمل صوتها الرياح الخفيفة، ثم توقفت كذلك. كأنها في لعبة الكراسي الموسيقية! عاد نباح الكلب مجدداً ولكنه أكثر قرباً. صممت على مواصلة السير حتى أعرف مكان هذا الكلب. ووجدته! كان مجرد جرو صغير أخذ يتراكض بخطوات قصيرة من حولي، وعيناه الداكنتان تنظران إليّ بريبة.
تحوّلت نظرات الجرو فجأة إلى طرف الشارع الفرعي، حيث كان شابٌّ يمشي مطرقاً ونظره معلّق بوردة حمراء ذابلة يحملها بكلتا يديه، أظنّ أني لمحت دمعتين في عينيه. تجاوزَنا الشاب ماشياً باتجاه الشارع الرئيسي. ثلاث طرقات قريبة هذه المرة، أزيز باب، ثم انصفاقه. تركت الجرو الذي استمر بالنظر إليّ ولكنه لم يغادر مدخل الشارع الفرعي، ودخلت أنا في هذا الشارع. أبواب قديمة متشابهة، لم يخطر لي في السابق الدخول إلى هذا الشارع، مجرد منطقة سكنية مغلقة على أصحابها، حيث لا توجد محلات للتسوق أو بائعو خضار أو مولد كهرباء، لا مظاهر استهلاكية على الإطلاق. من خلفي جاء رجل، تخطاني وهو يركض وبسرعة دقّ على أحد الأبواب ثلاث دقّات، فُتح الباب، ودلف إلى الداخل، اقتربت بدوري من الباب، ودققته ثلاث دقات. فُتح الباب، ودخلتُ! المكان قديم ومهلهل كأنه خراب، ولكن في زاوية كانت سكرتيرة تجلس خلف كوّة زجاجية كل ما فيها لامع ونظيف. لمحت الرجل يختفي في ممر ملاصق للكوة الزجاجية، فاقتربت.
سألتني السكرتيرة: ـ زبون جديد؟ فأجبت فوراً: ـ أجل! ـ سنعطيك بطاقة، احتفظ بها إذا أردت المجيء مرة ثانية. كانت قد دوّنت شيئاً ما على قطعة من الورق المقوى، وعلى سجلّ إلكتروني لديها، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها فأرة حاسوب لها أذنان. أعطتني السكرتيرة البطاقة، كان مكتوباً عليها: الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98. وكانت تبتسم ابتسامة عريضة كأنها دعاية معجون أسنان. دخلت في الممر المضيء الذي سار فيه الرجل، الزبون السابق لي. لم ترق لي كثيراً كلمة "زبون"، فمنذ فترة وأنا أقلل من مشترياتي قدر الإمكان. ولا أرى هنا ما يوحي بزبائن من أي نوع.
في الممر الطويل الممتد، تناهت إليّ أصوات مبهمة، كأنها مجموعة تلفزيونات أو موجات إذاعية متداخلة، لم أكن مرتاحاً ولكن المكان غاية في النظافة، و… الشفافية! نعم، فوجئت بوجهٍ أعرفه خلف الجدار الزجاجي إلى اليسار، إنه "مازن"، ولكن ماذا يفعل هنا؟ كان "مازن" جالساً وهو يتأمل شاشة كبيرة أمامه، بعد قليل وجدته يتحدّث مع أحدهم، ليس هناك سواه في الغرفة الزجاجية! لوّحت له بيدي من خلف الزجاج، لعلّه يراني ويتنبّه إليّ. لكنه مأخوذ تماماً بما حوله، ذاهل عما هو خارج الحيّز الخاص به. ﻻ يبدو أنه سيدعوني إلى الدخول، هل هو مختل عقلياً؟ أهذا مستشفى للمجانين مثلاً ودخلت إليه بطريق الخطأ؟ "الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98" هذه بطاقة تعريفي، فما بطاقة تعريف مازن يا ترى؟ في كل الأحوال سأدخل لأسأله.
فتحت الباب الشفاف بخفة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين دخلت، رأيت عدداً من أصدقاء مازن بعضهم من أصدقائي أيضاً، كلهم كانوا جالسين، ولكن… لحظة، هذه الغرفة مألوفة، كأني رأيتها من قبل، نعم، إنها غرفة الجلوس في بيت مازن. ما هذا! هل نحن في آلة زمن أو بالأحرى آلة مكان؟ كانوا جميعهم يتحدثون، وكأن هذه الجلسة مكررة، كأني شهدتها من قبل. اطمأننت إلى أن الباب الشفاف ما يزال في مكانه، ولكنه لم يكن شفافاً من الداخل، ولا الجدران، كأن طبقة كانت تزيد من انغماس مازن في الجلسة ثلاثية الأبعاد تلك. اتجهت نحو الباب، بعد أن رماني مازن بابتسامة سريعة، وخرجت.
في الممر، أخذت أسترجع ما حصل. ابتسامة مازن الأخيرة لم تكن تنم على خلل عقلي، إنه مبتهج ومسرور، ولعلّه استوعب دخولي المكان. لمع في ذهني خاطر، لقد سبق لي الانضمام بالفعل إلى هذه الجلسة، ولكن بعد هذه الفقرة، فقد كنت حينها في الطريق إلى منزل مازن وسبقني الأصحاب إليه. لقد فهمت! في هذه الغرفة يسترجع مازن ذكرياته القديمة، يجلس من جديد مع أصحابه الذين سافر بعضهم وطوى الزمن بعضهم الآخر، يستعيد لحظات ماضية، ولعلها ساعات. عرفت الآن سر الدمعتين في عيني ذلك الشاب الذي رأيته يخرج من الباب، والوردة الذابلة. إنهم يشاهدون أحداثاً قديمة ثلاثية الأبعاد. يا لها من فكرة. بطاقة الدخول. هل هي نوع من الاشتراك، أستبعد أن تحتوي بطاقة مازن على اسمه "مازن"، بل لعل المكتوب بها "رجل ذو نظرات هائمة، الرقم 331". سأسأله حين أراه. يا ترى هل هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هنا. سأنتظره.
لم أستطع تشغيل هاتفي الجوال، الذي عطّلته على ما يبدو الذبذبات الخاصة للمكان، فقضيت باقي الوقت وأنا أتأمل باقي الغرف الشفافة، بعض من فيها كانوا يبكون، والآخرون يضحكون، وبعضهم كان يتأمل مشاهد طبيعية وحقيبة مسندة إلى طرف الطريق. فتيات يحتفلن بيوم التخرج في الجامعة، آخرون يتسلقون قمة صخرة شاهقة ويصيحون. طال مكوث مازن في الداخل، فقررت الخروج، سأتصل به لاحقاً، وسنأتي معاً إلى هذا المكان. "الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98"، أقلّب البطاقة بين يدي في طريق العودة، وأنا أتمنى ألاّ تبتلع العاصفة الرملية هذا المكان الغريب، كان الجرو قد اختفى، والعاصفة تخف تدريجياً، ولم يتبق سوى وردة حمراء ذابلة على قارعة الطريق.
* كاتبة وأكاديمية سورية ** نشرت القصة في مجلة الشهباء الثقافية ـ حلب، السنة السابعة، العددان 22، 23 ـ عام 2018
|