في المساءِ وبينما أسيرُ بتروٍ في الإبراهيمية ذلك الحي العريقِ ، الذي كان يعجُ بالجاليةِ اليونانيةِ قديمًا ، تقعُ عيناي على لافتةٍ قديمةٍ كُتِبَ عليها ” أنتيكات ” ، تشيرُ إلى الشارعِ الجانبي الضيقِ ولكنَّ الظلامَ شديدٌ ؛ على ما يبدو انقطاعٌ في التيارِ الكهربائي إلَّا من ضوءٍ خافتٍ ، بالكادِ يفسرُ وجودَ بابِ دكانٍ مازال مفتوحًا ، يبتلعُني ظلامُ الشارعِ الجانبي ، يسودُ الصمتُ المكانَ ، أتوجهُ نحوَ الضوءِ الهزيلِ ، فإذا بي أمامَ معرضِ الأنتيكاتِ ، فرأيته جالساً إلى مكتبِه على ضوءِ شمعةٍ ، يعتمرُ قبعةً ، ينفثُ دخانَ غليونِه ، أخطو برويةٍ وحذرٍ ، فأجدني وسطَ مُتحفٍ للأنتيكاتِ قد تكدست بشكلٍ عشوائي ، تتقدُ جذوةُ رغبتي الملحةِ في اقتنائها جميعًا لو كنت أملكُ ثمنَها :
- مساءُ الخيرِ .. أتسمحُ لي بالمشاهدةِ
- المكانُ كلُه رهنُ أمرِك
يتملكُني شعورٌ بالسعادةِ ممزوجٌ بالحسرةِ ، آهٍ لو كنت أملكُ ثمنَها جميعاً ما تركت منهم قطعةً إلَّا واقتنيتُها ، تتمتعُ عيناي بتفحصِ الأنتيكاتِ ، يجذبُني تمثالٌ إغريقي لرأسِ إنسانٍ بدونِ عينين ، قد وُضِع في ركنٍ مظلمٍ ، أستديرُ فإذا بالتاجرِ خلفي بعينين متحجرتين يرمقُني ؛ فأفزعَ ؛ لم أشعرْ به خلفي :
- هل تمثالُ الرأسِ أصلي ؟!
- وصلني مع أنتيكاتٍ اشتريتها من فيلا المرأةِ اليونانيةِ التي وجدوها ذاتَ يومٍ مقتولةً .
- أتذكرُ تلك الحادثةَ التي كانت حديثَ الإسكندريةِ كلِها ، فقد فصل القاتلُ رأسَها عن الجسدِ وفقأ عينيها ، ولكن ذلك كان منذ سنين بعيدةٍ ، أليس كذلك ؟!!
- فعلاً وقد باع ورثتُها مقتنياتَها ، وقد قصَّ أحدهم عليَّ أن لتلك الرأسِ أسطورةً إغريقيةً شيقةً .
- شوقتني أن أعرفها .
- أخبرني أنَّ الرأسَ يرجعُ لشاعرٍ إغريقي أحبَّ فتاةً من بلدتِه قد شغفت حاكمَ البلدةِ حباً ؛ ففقأ عيني الشاعرِ وقطع رأسَه ، فكانت رأسُ الشاعرِ تظهرُ للفتاةِ ؛ تنشدُها قصائدَ الحبِ ، وفي يومٍ ما وجدوا الحاكمَ مقتولاً وقد فُقِئت عيناه وإلى جوارِه تمثالُ رأسِ الشاعرِ ، فصار أسطورةً للغرامِ والانتقام ِعند الإغريقِ قديماً .
تأسرُني أسطورةُ التمثالِ ؛ فأتعلقَ بالقطعةِ
- أسطورةٌ جذابةٌ فعلاً ، لكن من المؤكدِ أنَّ الرأسَ غيرُ أصلي ، وتمَّ تقليدُها بإتقانٍ
- فعلاً تبدو وكأنَّها قطعةٌ أصليةٌ
- قد اشتريتُها
أعودُ لبيتي تغمرُني السعادةُ ؛ لاقتنائي تلك القطعةِ ، وقد تعلقت أسطورتُها بذهني . الليلةُ شديدةُ البرودةِ وحاجتي للنومِ باتت ملحةً ، فأضعُ تمثالَ الرأسِ لجوارِ سريري ، وأغطُّ في نومٍ عميقٍ ، فأرى في حُلمي وكأنَّني في جبلِ ” الأوليمب ” ليلاً ، أسيرُ حافياً في ضوءِ القمرِ ، على ذلك البلاطِ الحجري ، تصطفُ أعمدةُ المعابدِ تتوسطُها تماثيلُ آلهةِ الإغريقِ ، فإذا بشابٍ يجثو على إحدى ركبتيه ، ممسكا بكفي فتاةٍ ممشوقةِ القوامِ مرمريةِ الجسدِ ، ينشدُها كلماتِه ، ينهضُ ليلفَها بذراعيه في حنوٍ ، يقبلُها قبلةً تأسرُ روحَها
- يا له من مشهدٍ رومانسي غاية في الروعةِ .
تسبقُني خطواتي إليهما ؛ لأجدَ الفتاةَ جاثيةً على ركبتيها ، تحتضنُ تمثالَ الرأسِ ، تسيلُ منه الدماءُ تلطخُ رداءها الأبيضَ ، ولا أثرَ للشابِ ، أشعرُ بأنفاسٍ حارةٍ خلفي مباشرةً ، أستديرُ فإذا بالشابِ مفقوءِ العينين ، تزرفُ منهما الدماءُ ؛ أتعثرُ فأطيحَ أرضاً مفزوعاً ، تشقُ صرختي الفضاءَ الواسعَ ، أنتفضُ تتلاحقُ ضرباتُ قلبي مسرعةً لهولِ الحُلمِ المزعجِ ، أجلسُ على حافةِ سريري أنظرُ لتمثالِ الرأسِ يتملكُني الذعرُ منه ، فقررت أن أعيدَه لتاجرِ الأنتيكاتِ ، وفي مساءِ اليومِ التالي وبينما حلَّ الظلامُ والسكونُ وخلا الشارعُ الجانبي من كلِ أثرٍ للحياةِ ، أصلُ لمعرضِ الأنتيكاتِ ، فإذا بالبابِ يعلوه غبارُ الإهمالِ ، مغلقاً بقفلٍ صدئ وكأنَّه لم يُفتحْ منذ سنواتٍ ، فإذا بصوتٍ خشنٍ يشقُ الصمتَ المطبقَ ؛ ينتفضُ له جسدي فزعاً .
- ما الذي يوقفُك هنا ؟! أيةُ خدمة ؟
- جئت لأعيدَ تلك القطعةَ لتاجرِ الأنتيكاتِ اشتريتُها بالأمسِ
- سلامتُك يا أستاذ !! تاجرُ الأنتيكاتِ تُوفِيَ منذ سنواتٍ في معرضِه ؛ وجدوه مُهشمَ الرأسِ مفقوءَ العينين ، بجوارِه رأسِ تمثالٍ ملطخٍ بدمائه .
ألقيت برأسِ التمثالِ أرضاً وأطلقت قدمي للريحِ تتلاحقُ أنفاسي ؛ لأصلَ بيتي مُنهكاً يتملكني القلقُ والاضطرابُ ، فما إن جلست إلى حافةِ سريري ، ينقطعُ التيارُ الكهربي ، لأجد تمثالَ الرأسِ لجواري ..
بقلم #سمير_لوبه
من المجموعة القصصية #كواليس