د.نعمه العبادي\ العراق
تنقسم حاجتنا في ظل واقع الحياة التي نعيشها إلى سلع وخدمات، فالسلع مثل السيارة والنظارة والثلاجة… الخ، والخدمات مثل التطبيب والحلاقة والخياطة… الخ..
تناقش هذه المقالة المكثفة العلاقة الجدلية بين ثلاثة متغيرات هي : (جودة الخدمات، ثقافة المجتمع، الموقف من الحياة)، إذ يتداخل التأثير بين هذه المتغيرات بطريقة معقدة وغير مرئية، ويصعب القبض على الحدود الفاصلة بين اثرها.
عمليا، معظمنا جرب ان يحصل على خدمة التطبيب في مشفى حكومية وعيادة خاصة، وايضا جرب العيادة الخاصة في اكثر من مدينة، وعدد لا بأس به منا جربها في بلدان مختلفة، وهكذا الحال بالنسبة لباقي الخدمات، ومما لا شك فيه، لاحظ جليا حجم الفارق في جودة الخدمة وطريقة تقديمها.
يمكن تحليل كل خدمة الى ثلاثة مكونات رئيسة هي : (جوهر الخدمة، وطريقة تقديمها، والمكملات الاضافية)، وفي مثال خدمة التطبيب، يتمثل جوهرها في التطبيب اي تشخيص الداء ووصف الدواء، واما طريقة التقديم، فيتمثل في اسلوب الطبيب وطاقمه، ونظام العيادة وطريقة الاجراءات، واما المكملات، فلا يمكن حصرها، إذ يتنافس العالم المتقدم في توسيعها وزيادتها، والمهم في هذا التقسيم، التأكيد على ان النقص في جوهر الخدمة يخرجها من دائرة التسمية، فلا يمكن ان نسمي حلاقة شخص يجهل المهنة ويقوم بتخريب قصة الشعر انها خدمة حلاقة، وهكذا الامر في كل الخدمات.
تعتمد الخدمات على المهارات، ومعظمها تأتي من حاصل جمع بين الموهبة والتعلم، وهي قابلة للتطوير والتحسين بشعاع مستقيم لا يتوقف عند حد محدود، كما انها تتأثر بشكل سريع وجوهري بالتغيرات التي تمر بها الحياة.
بعد سيطرة النزعة الاستهلاكية على العالم، وشيوع ثقافة السعر الأقل على حساب المتانة، استولت الصين كأكبر مصنع في العالم على اكبر قائمة من السلع، واصبح من الصعب منافستها لجهة الكلفة وطبيعة الاسعار، إلا ان سباق الخدمات اخذ منحنيا آخر، وصار العالم يتنافس على جودته وكلفته وتكامله وسهولة تقديم واتاحته بكل الاوقات وفي كل الامكنة.
يرى اقتصاد السوق، ان حرية اختيار الزبائن وثقافتهم تخلق منافسة في العرض، إذ يؤدي ذلك الى جودة الخدمة وتخفيف تكاليفها، فالكل يريد ان يربح المشترين، والطريق الامثل لنيل ذلك يتمثل في تقديم خدمة جيدة وبكلفة اقل، وعلى هذا الاساس بني الاقتصاد في دول مثل امريكا والاتحاد الاوربي، بل وحتى الصين بشكل نسبي.
عند النظر في طبيعة الخدمة المقدمة في اي بلد من البلدان، يظهر الترابط الجدلي ما بين جودة الخدمة وثقافة المجتمع، فالمجتمع المثقف والمتطور لا يقبل خدمة بمستوى بسيط ومنقوص، بل لا تروق له حتى الخدمة العادية، وغالبا ما يقايس ما بين الخدمة التي يتلقاها في مجتمعه والخدمة في مجتمعات افضل تعرفها عليها بشكل مباشر او غير مباشر، ومن جهة ثانية، فإن جودة الخدمة وحسن طريق تقديمها ينمي ثقافة المجتمع وينضجها بشكل افضل، ويدفع بالسلوك الاجتماعي عبر الطريقة والنمط الذي تقدم به الخدمة الى تطوير سلوكه في مجالات الحياة الاخرى، كما ان المتغير الثالث، وهو موقف المجتمع من الحياة، واعني به الرؤية الى اهمية الحياة وطريقة عيشها والمستوى الذي ينبغي ان تكون عليه، يؤثر هذا في ثقافة المجتمع من جهة وفي طبيعة الخدمة وجودتها من جهة اخرى، ففي مجتمع محب للحياة والجمال، لا يمكنه ان يرضى بمستوى خدمة بسيط في القضايا التي لها صلة بالجانب الجمالي وهكذا دواليك.
دائما، اوصف العراق بأنه بلد سلع وليس بلد خدمات، وهذا يصدق على القطاعين العام والخاص، فأسواقنا تغص بالبضائع بأشكالها المختلفة إلا هناك نقصا عظيما في جانب الخدمات، ومع توفر مسمياتها، فهي تقدم بطريقة غير لائقة او بعبارة أهون غير مدنية او ليست بمستوى منافسيها في دول الجوار فضلا عن دول العالم الاخرى، طبعا نحن لسنا في اسفل القائمة إلا ان ذلك لا يغير من الحكم على رداءة الخدمات المقدمة.
من المؤسف ان هناك مهن كثيرة كانت تقدم طيفا واسعا من الخدمات انقرضت تدريجيا وغابت من السوق لأسباب مختلفة من اهمها طغيان السلع الجاهزة التي لا يمكن منافستها، وكذلك المردود المادي البسيط، والاهم المزاج العام الذي ابتعد كثيرا عن الفنون والمهارات.
في اكثر من نقاش، كنت ولا زلت اقول اننا لا نعاني من بطالة بالمعنى الصرف، بل نعاني من عمالة جاهلة اي ناقصة الخبرات والمهارات، ولا يخفى عليكم ان السوق العالمية اليوم لا تبحث عن الشهادات بل عن الخبرات، وهي الشرط الاساس للقبول في سوق العمل، فأي شركة تدعو للتوظيف لن تختار الاعلى شهادة، بل الاكثر خبرة واجادة للعمل، فصاحب العمل يبحث عن الانجاز والربح، لذا من الخسارات العظيمة تفريطنا بالمعاهد والمدارس المهنية التي تعلم صناعة المهارات، ومع وجودها فهي فرصة لمن ليس له مزاج للدراسة والتعلم الجاد وليس لتقديم مهارات الى سوق العمل.
ان ثقافة الرضا بمستويات متدنية من الخدمة خصوصا لجهة النقص في جوهر الخدمة وطريقة تقديمها تحت شعار “شتسوي.. هذا الموجود”، يساهم في إبقاء واقع خدماتنا بشكلها البسيط والمتخلف، ويحول دون ايجاد فرص للمنافسة والتطور، ويبقي الاسعار على حالها، فعدم مطالبة سائق السيارة بوجود مكيف فيها في فصل الصيف مع الحاجة الماسة له، يبقي الامور على حالها، ويتيح مجال لمن لا يدرك ثقافة تقديم الخدمة البقاء كمنافس غير شرعي في السوق، وفي كل الاحوال يخسر المستهلك المواطن فرصته في الحصول على خدمة افضل وسعر عادل.
ما لم يتطور الوعي والموقف من الحياة لن تتغير خدماتنا بالطريقة التي تليق بنا وبمجتمعنا، وسوف يكون ميزان التنافس مختلا، لذا ولاجل ان ننعم بخدمات على الاقل مشابهة ومساوية من حيث الجودة والسعر في دول اقل مستوى اقتصادي منا، علينا ان نشكل ثقافة ضغط بإتجاه المطالبة بالخدمة الافضل.