~
ثمّة وهمٌ شاع عند بعض الكتبَة؛ أنّ استغلاق المعنى عن الفهم، حتّى عند النُّخب، إنّما يصبّ في عبقريّة النّصّ وتفرّده!
فكثرت الهلوسات اللغويّة، وأطلق بعضُهم العنان للهذر اللّغويّ الذي لا يُحيل إلى أيّ معنى أو شعور، وحجّتهم في ذلك أنّ الأدب الحقّ ليس شرحاً ولا توصيفاً لما يقع تحت طائلة الوعي أو الحواسّ، ونحن نقول آمنّا، ولكن في المقابل ليس الفنّ الأدبيّ محض تهويمات لا ينظمها ناظم من وعي أو شعور!
ومعروف أنّ معظم هؤلاء يتمسّحون بأدونيس ومن لفّ لفّه من الشّعراء، ولكنّ الطّريف أنّ أدونيس نفسه، وسَدنة مجلّة “شعر” وحركتها ميّزوا جميعاً بين “الغموض الماسيّ” الذي يغترف من اللاشعور فتنهض صورٌ ومفارقات لغويّة باهرة، تذهل المتلقّي، حتى ولو لم يستطع استجلاء تشكيلها الفنّيّ، لأنّ إحساساً بفرادة ما يقرأ وعمق دلالاته تنغرس في روعه منذ القراءة الأولى!
وبين الصّنف الآخر من الغموض الذي، كلّما تأمّلتَه أحالك إلى خواء معنويّ وشعوري، حتى ليبدو النّصّ وكأنّه لعبة كلاميّة تزيدك نفوراً من الشّعر والشّعراء.
ويبدو أنّ الطريقة المدرسيّة، القائمة على الشّرح والتّوضيح في تذوّق الأدب أفسدت الذّائقة العامّة لدينا، وجعلتها لا ترتاح إلّا لما يُسلمها قياد مضمونه منذ القراءة الأولى، وأنّ هذا المناخ نفسه قد حرمَنا، غالباً، من امتلاك القدرة على التّوغّل في ألباب النّصوص وبلوغ دلالاتها الإيحائية الرابضة على حواف التّأويل، وربّما يكون هذا السّبب ذاته هو الذي جعل الفئة المولعة بالتّغريب غاضبة جدّاً فتجمح كلّ ذلك الجموع باتّجاه تدبيج كلام يجعلنا نهرش طويلاً قبل أن نقبض على أيّ مغزىً فيه، ولو بإلحاف الفِكر وكدّه!
فكثير من نصوص أدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صايغ، وغيرهم كثر، ظلّت قابعة في أبراجها الورقيّة مثل ساعة ولادتها، بينما احتفى جمهور النّقّاد ومتذوّقي الشّعر بمجموعة أدونيس “أغاني مهيار الدّمشقي” لأنّها لم تطوّح بالحدّ المطلوب من وجدانيّة القصيدة ومخيّلتها النضيرة، مع حرصها على قدر من الغموض الشّفّاف الذي لا يحوّل القصيدة إلى صنف من الطّلاسم يُلزمك إحراق البخور واستحضار الرّقى لكي يمكنك الولوج إلى جوّانيتها، وأنت من أنت من المشتغلين في الأدب، بأجناسه الممتدّة!
فأيّ قارئ لم يهتف إعجاباً بأدونيس في قوله:
يكفيك يا مهيارُ أن تعيشْ
منهزماً
أخرسَ كالمسمارْ
لن تلمحَ الله على الجباهْ
يكفيك يا مهيارْ
أنْ تكتمَ السِّرَّ الذي محاهْ!
أو قوله:
وشوشني آدمْ
بالحزن
بالأنّةْ
بحُرقة الآهِ:
لستُ أبا العالَمْ
لم ألمحِ الجنّةْ
خذني إلى اللهِ!
يبقى القول الفصل في زعمي المتواضع:
أنّ الغموض في الشّعر لا يليق بفنّيّة الكتابة حين يجعله الشّاعر غاية لذاته، لأنّ ذلك سوف ينتج نصّاً أخرق “مسحوب الدّسم” أدبيّاً، وليست حجّة اللهفة إلى التّجريب مقنعة دائماً في مثل هذه النّصوص الرّخوة التي تمدّ لسانها للقارئ الحصيف زاعمة أنّه عاجز عن استكناه عبقريّتها الفذّة!
أمّا إذا جاء الغموض مثل طيف “موشوريّ” يجعل النّصّ يتلألأ باتّجاهات عميقة ساحرة، عندها سنهتف ملء أحاسيسنا:
طوبى للسّحر الحلال، جاءنا محمولاً في أكناف الكلام المبجّل الذي طالما تمنّينا أن نقوله، ولكنّ الشّاعر المبدع قد سبقنا إليه.