“د.مصطفى عطية
“شعرية الفضاء الإلكتروني وما بعد الحداثة: ديوان ” إغواءات الفراشة الإلكترونية ” للشاعر محمد يوسف نموذجا
الشعرية والفضاء الرقمي” هي القضية التي تطرحها هذه الدراسة، لأن العالم الرقمي/ الإلكتروني صار أساسا في كل ما هو يومي وحياتي. فقد باتت أجهزة الحاسوب في كل منزل وعمل، وصار الاتصال بالشبكة العنكبوتية في متناول اليد، في أجهزة الهاتف النقال، فكأن هناك عالما عجيبا مدهشا نحمله في أيدينا، نقضي فيه الساعات الطوال، متجولين في أبعاده غير النهائية، متعدد البشر واللغات، يتلاشى الزمن في إدراكنا المنطقي له، ويذوب المكان، وتتكون علاقات جديدة بين المستخدمين.
لقد فرض هذا العالم واقعا افتراضيا، وأوجد تخييلا جديدا، وجذب ملايين من البشر، متعددي الأعمار والأمزجة والثقافات والتصورات والخيالات، فكان لابد من مواكبته إبداعيا، شاء البعض أم أبوا، فظهرت إبداعات تتماس مع رحابة هذا الفضاء، وبعضها اتخذه وسيلة للنشر، وهناك من غاصوا فيه، لم يكتفوا بالسباحة ولا التطلع على شواطئه، وإنما تخيلوا أن يكونوا جزءا منه، يصهرونه في أعماقهم، ويصهرهم في أمواجه، فكان فكرا وإبداعا وفلسفة.
إن هذه الدراسة تسعى إلى الإجابة عن جملة أسئلة، أبرزها: ما حدود العلاقة بين الفضاء التقني (الشبكة العنكبوتية أو الشابكة)، وبين الإبداع عامة، والإبداع الشعري خاصة ؟ هل يمكن أن يلج الشاعر غمار الشابكة، ويبحر في ثناياها بشاعريته، متخطيا حدود التعبير التقليدي ؟ هل يمكن أن تكون الشابكة عالما جديدا يسبح فيه الشاعر رؤية وإبداعا؟ وكيف تم ذلك ؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، نحتاج إلى مناقشة تأصيلية للفضاء التقني، وأبعاده الاجتماعية، وتأثيراته الفكرية، وامتداداته على صعيد الإبداع، وكيف تمت قراءته فلسفيا، وكيف تواصل معه الشعراء إبداعيا وهو ما تم في التأصيل النظري عبر محورين: الأول بعنوان: الفضاء الرقمي: الكينونة والرمزية، والثاني: بعنوان: القراءة الفلسفية ورؤية ما بعد الحداثة، ثم تأتي الدراسة التطبيقية عن الشاعر محمد يوسف، وديوانه إغواءات الفراشة الإلكترونية.
ويمثل ديوان ” إغواءات الفراشة الإلكترونية ” للشاعر ” محمد يوسف (رحمه الله) نقلة نوعية في تجربته، على أصعدة عدة، فيكاد يكون هو الديوان الأول من نوعه، الذي حوى تجربة شعرية متكاملة عن التعامل مع الفضاء الإلكتروني، بالنظر إلى تاريخ صدوره المتقدم نسبيا (1998م)، وبالطبع فإن زمن كتابة نصوصه سابق على هذا التاريخ بسنوات، حيث تمتد تواريخ كتابة النصوص كما ذكرها الشاعر في ذيل كل نص خلال ثماني سنوات، تبدأ من (1990 إلى 1998م).
لاشك أن هناك تجارب شعرية عربية مختلفة تعاملت مع عالم الحاسوب والشابكة بشاعرية، ولكنها كانت نصوصا متناثرة، حتى توقيت صدور هذا الديوان. ونلاحظ أن الديوان قد صدر في توقيت قديم نسبيا، حيث كان الحاسوب وشبكات الإنترنت محدودي الانتشار في العالم كافة، وفي المجتمع العربي خاصة، فتعد التجربة مغامرة شعرية وفكرية وجمالية.
فيعد هذا الديوان مختلفا في مسيرة الشاعر محمد يوسف، قبل إصداره وبعده، فشاعرنا من جيل الستينيات المهمومين بقضايا الوطن والأمة، وتفاعل الذات معها، فيعد هذا الديوان تغريدة فريدة في مسيرته الشعرية، خاصة أنه لم يعمقها بشكل واضح في تجارب أخرى، وإنما اكتفى بهذا الإصدار المبكر والمختلف، معلنا قراءته الجديدة لعالم الشبكة العنبكوتية، بكل مفرداته ومفاجآته.
كذلك، فإن هذه التجربة مغامرة لمحمد يوسف، كشاعر وإنسان، فبالنظر إلى عمره، وثقافته، وجيله، نجده قد تعامل مع عالم الحاسوب والفضاء الإلكتروني مبكرا، بل وسابقا عن جيله، والأجيال التالية، ولم يكن تعامله تعاملا تعليميا كأداة للكتابة والقراءة والبحث فقط، وإنما تعامل شعري جمالي عالي المستوى، وهو بهذا يكتسب ريادة في ذلك الاتجاه.
أدعو الله أن تكون هذه الدراسة إضافة لغيرها من الدراسات التي تسلط الضوء على علاقة الإبداع بالفضاء الرقمي.