بقلم : م . أبوزيد عبد الله
في مفهوم التخلف الإقتصادي
والإجتماعي
بقلم : م . أبوزيد
ج ١
لاشك في أن مصطلح التخلف بمعناه الإقتصادي والإجتماعي ( وليس الأخلاقي ) من أهم المصطلحات التي يتم تداولها بكثافة في حياتنا اليومية ، بل في أروقة السياسة المختلفة دون إتفاق على معنى محدد ومنضبط لهذا المصطلح المهم
وإنطلاقا من القناعة بأن اي محاولة لإخراج مجتمعات مايسمى بالعالم الثالث من كبوتها ، وإقالتها من عثراتها ، لابد وأن تتم وفقا لإستراتيجية
تقوم على الوعي بأن مشكلات الإنسان العربي لن تحل ، في هذه المرحلة التاريخية ، إلا من خلال نقلة حضارية تتم بفضل تعبئة جهده الواعي وتمثل سبيل تخلصه من كل مظاهر التخلف كظاهرة تحول بينه وبين تحقيق ذاته ، على أساس من تغيير لنمط معيشته ورفع مستمر لمستواها .. فإستراتيجية التطوير لأي إقتصاد لابد وأن تسعي لإخراجه من عمليه التخلف الإقتصادي والإجتماعي التي تعيشها المجتمعات العربية منذ ما يقارب القرنين من الزمان ، فالتطوير لا يمكن أن يكون إلا العملية التاريخية التي تنفي التخلف . ( أنظر في ذلك : د . محمد دويدار ، محمد نور الدين ، سلوى العنتري – الإعتماد على الذات – منشأة المعارف بالاسكندرية ١٩٨٠ . د. عادل مختار الهواري – التغيير الإجتماعي والتنمية في الوطن العربي – دار المعرفة الجامعية بالأسكندرية ١٩٩٣ ) ..
فإن تناول التخلف كظاهرة يقتضي الإشارة إلى أن اغلب المراجع الاقتصادية في الوطن العربي تقوم بدراسة العلاقات الإقتصادية وكأنها تتم بين أجزاء متجانسة ( على درجة واحدة من التطور ) من الإقتصاد العالمي . وفي حالة الوعي بأن الأجزاء غير متجانسة يؤخذ عدم التجانس كمعطى وليس كنتيجة لسيادة نوع من العلاقات الإقتصادية خلال حقبة من تاريخ المجتمع العالمي وهي الحقبة التي تسيطر فيها طريقة الإنتاج الرأسمالية . والنتيجة المترتبة علي ذلك ألا تقدم تلك الدراسات تفسيرا لطبيعة الاقتصاد الرأسمالي المعاصر وبخاصة الاجزاء المتخلفة منه ، ودون تفسير علمي للتكون التاريخي لظاهرة التخلف الإقتصادي والإجتماعي ، بل ودون قدرة على معرفة إمكانيات وشروط تطوير هذه الأجزاء المتخلفة في إطار المجتمع العالمي . ( ويرى د. حازم الببلاوي أنه ومع إرهاصات نهاية الحرب العالمية الثانية نشأ فرع من الدراسات الإقتصادية يهتم بالتنمية الإقتصادية للدول الفقيرة بينما كان الحديث قبل ذلك عن الدول المتخلفة او ” النامية ” تهذبا ، كما قدم أحد علماء الإجتماع الفرنسيين تعبير ” العالم الثالث ” إستنادا إلى التاريخ الإجتماعي في فرنسا حيث كان البرلمان يتضمن إلى جانب النبلاء ورجال الدين ، الطبقة الثالثة وهم العامة . د . حازم الببلاوي – دور الاقتصاد في الدولة – دار الشروق ١٩٩٨ ص ٢٠٨ .. ولأني تتلمذت بمرحلة الدراسات العليا على يد لفيف من الأساتذة من ضمنهم د . حازم الببلاوي فإنني أقول له : أختلف معك يا استاذي ، فتوصيف البلاد المتخلفة بأنها فقيرة غير سليم علميا ، لأنه أعتبر النتيجة سببا
ولأنه يقترب بدرجة كبيرة من وجهة النظر التي ترى أن التخلف هو بشكل ما قدر من عند الله ، ويستدل أصحاب تلك النظرة بما ورد بإنجيل متى – الإصحاح الخامس والعشرين – الآية ٢٩ ” كل من لديه سنزيده ، حتى يصبح لديه وفر ، وسنأخذ ممن يفتقرون حتى الذي بين أيديهم ” ومن المفترض ان يكون التعليق الوحيد الذي يصدر عن المرء هو ان يقول : آمين . والتر رودني – اوربا والتخلف في أفريقيا – ترجمة أحمد القصير – عالم المعرفة ١٩٨٨ ص ٣٧ وما بعدها )
فالفكر الإقتصادي الأكاديمي الذي سيطر على البلدان المتخلفة والذي يرى أن تلك البلدان توجد في مرحلة من مراحل النمو الإقتصادي متخلفة عن تلك التي بلغتها البلدان المتقدمة . ومن ثم فإن البلاد المتخلفة وفقا لتلك النظرة ، هي التي تتسم بإنخفاض مستوى دخل الفرد إنخفاضا كبيرا بالمقارنة بمثيلاتها في الدول المتقدمة ، وإبتداء من ذلك اقترحت نماذج للتنمية تستلهم الخطى التي اتبعتها الدول التي أصبحت متقدمة ، وترى ان الخروج من وضعية التخلف لا تكون إلا بالإستعانة بالإستثمارات الأجنبية ..والعمل بدأب نحو تعظيم الفوارق بين الدخول بإعتبار أن ذلك يؤدي إلى تحقيق إدخار يمكن ان يساهم في رفع معدل الإستثمار وبالتالي زيادة الدخل القومي . ( أنظر د. محمد زكي شافعي – التنمية الاقتصادية – دار النهضة العربية ١٩٦٨ ، د. وديع شرايحه – مشاكل التنمية في البلدان حديثة النمو – معهد البحوث والدراسات العربية ١٩٦٩ ص ١٥ : ١٦ ، د. علي حافظ منصور، د. نبيل روبي – مذكرات في التنمية الإقتصادية -مكتبة عين شمس ١٩٧٦ ص١٥ ) مستخدمين في ذلك أدوات التحليل الحدي ونظرية التوازن ، وهي أدوات ثبت قصورها وعجزها عن فهم الواقع الإجتماعي . ( فوزي الإخناوي – دول الجنوب وازمو الإقتصاد الدولي – دار الثقافة الجديدة ٢٠٠٠ ص٢٠١ .
ويتسائل د. حسين عمر عما إذا كان الإرتفاع في مستوى المعيشة في البلدان المتقدمة قد نتج من موارده الذاتية أم أنه حصيلة إستغلال بلدان اخرى . ( انظر د. حسين عمر – التطور الإقتصادي – دار الفكر العربي ١٩٨٨ ص ٦٣ ) . وكم يبدو مدهشا تمسك الإقتصاديين في العالم الثالث بفلسفة الحرية الإقتصادية علي الرغم من أن الدول الكبرى لم تصبح كذلك إلا بإتباع عكس السياسات التي نادى أنصار فلسفة الحرية الإقتصادية . ( د. جلال أمين – وصف مصر في نهاية القرن العشرين – دار الشروق – ٢٠٠٠ ص ١٩٠ ) ..
تعريف التخلف الإقتصادي :
…… …….. ……. ………
التخلف الإقتصادي والإجتماعي ليس مجرد حالة يوجد عليها المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطور المجتمع الإنساني
وإنما هو عملية تاريخية ، عملية لتحول الهيكل الإقتصادي بمقتضاه يبدأ الإنتاج وتجدد الإنتاج – في المجتمع الذي أصبح متخلفا – في التحقق إستجابة لحاجات خارجية ( هي حاجات الإقتصاد الأم ) والتي يلزم لإشباعها تغيير الشكل العيني للفائض ( من المواد الغذائية للقطن كما هو الحال بالنسبة لمصر عبر التغييرات التي تمت منذ بداية القرن التاسع عشر حتي ستينات القرن هذا القرن حين اصبحت مصر لأول مرة مصدرة للقطن ومستوردة للمواد الغذائية ، وهو مايصدق على كروم الجزائر ، وفوسفات المغرب ، وحديد موريتانيا ، وقطن السودان ، وبن وقطن اليمن وهكذا ..
وتقترن هذه العملية بتغييرات في قوي الانتاج بالمجتمع ( القوي العاملة – الفنون الأنتاجية – أنواع المنتجات – الاساس المادي للإنتاج من ري وصرف وخلافة – والشكل التنظيمي لعملية الإنتاج على نحو تتحول معه وسائل الأنتاج الأساسية ، وخاصة الأرض، ألي سلعة يمكن التخلي عنها في السوق ..
فالتخلف الإقتصادي والإجتماعي هو عملية تاريخية تتمثل إقتصاديا في عملية تحول الهيكل الإقتصادي علي نحو يجعل الإنتاج يتم لإستجابة لإحتياجات في خارج المجتمع ، هي إحتياجات رأس المال المسيطر ، ويعبئ الفائض نحو الخارج ، مما يعرقل من تطور المجتمع الذي أصبح متخلفا . هذه العملية تتحقق مع صيرورة المجتمع الذي أصبح متخلفا جزء من الإقتصاد الرأسمالي العالمي في قيامه على تقسيم العمل الرأسمالي الدولي .
تحول الهيكل الإقتصادي إلى هيكل تابع يعني قيام الإقتصاد الذي اصبح متخلفا بدور في تقسيم العمل الرأسمالي الدولي ، اي تخصصه في إنتاج سلعة او سلعتين عادة ما تكون من المواد الأولية بحيث لا يصبح بإمكان الاقتصاد القومي إشباع الحاجات الداخلية إلا من خلال التجارة الخارجية التي تصبح مصدر كل ديناميزم للإقتصاد المتخلف . وهكذا يختل توازن الإقتصاد القومي إذا ما نظر إليه من زاوية إشباع حاجات سكانه . ويصبح إنعدام توازن هيكل الإقتصاد المتخلف شرط توازن الإقتصاد الرأسمالي العالمي في قيامه على تقسيم العمل الدولي .
وتجب ملاحظة ان شكل تقسيم العمل الرأسمالي الدولي لا يتحدد مرة واحدة يبقى بعدها دون تغيير ، بل هو في تغير مستمر مع تطور التكوين الإجتماعي الرأسمالي ..
عملية الخلق التاريخي لشروط تكون التخلف الإقتصادي توجد مع إندماج المجتمع الذي أصبح متخلفا في الإقتصاد الرأسمالي العالمي ..وهذه العملية تتم بكيفيات تختلف من مجتمع لآخر وهو ما يستوجب دراسة كل بلد علي حدة ..فقد تمت في بعض البلدان عن طريق الغزو العسكري ، او عن طريق التصفية الجسدية للمنتجين المباشرين ، او عن طريق إزاحتهم مكانيا عن الارض الجيدة ..الخ تلك الوسائل التي تحددها دراسة عملية التكون التاريخي للتخلف في المجتمع محل الدراسة ..
فمثلا …تمت هذه العملية في مصر عن طريق ضرب الدولة المصرية مرتين .. الاولى ١٨٤٠ والثانية ١٨٦٠ وبنوع من الخصوصية عبرت عن نفسها في دور الدولة المصرية كما تحقق طوال القرن التاسع عشر .. ولسوف نري في حديثنا عن مصر (as a study case ) كيف إنتهى الامر بدولة الخديوي إسماعيل إلى تسليم الفلاح ..الممثل الرئيسي للمنتجين المباشرين إلى رأس المال …
دراسة النظرية العامة للتكون التاريخي للتخلف الإقتصادي بصفة عامة وهذا يقتضي تتبع عملية التطور الرأسمالي بالنسبة للقطاعات المتقدمة وهي العملية التي انتجت التخلف .
تطبيق تلك النظرية علي حالة مصر …
وهذا ما سنفعله في الاجزاء القادمة …