لقد افرز الادب السياسي المهيمن في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي رؤية لإشكاليات النهوض العربي كانت وليدة الاطار السائد انذاك على صعيد الثقافة السياسية والإبستيميات التي تحركت ضمنها.وقد كانت هذه الرؤية في المجمل محكومة بالقاع المعرفي للماركسية التقليدية او الوضعانية المنطقية الصاعدة عربيا عبر كتابات زكي نجيب محمود ومن تأثر به او عبر التمثلات الرومانسية ورغم القراءات النقدية التي دشنها بشكل خاص عقد الثمانينات فان تلك القراءات بقيت في مستوى التداول الاكاديمي ولم تتم ترجمتها عبر لغة سياسية إلى رؤية وبرامج جديدة تنبثق عنها تمثلات وذهنيات تطور العمل السياسي وتحث على استئناف النظر في اشكالية العلاقة بين الحكمة النظرية والحكمة العملية فبقي اطار النظر معزولا عن سؤال ما العمل وبقيت الممارسة خاضعة لأفق في النظر متجاوز معرفيا وتاريخيا لقد نشأ عن هذا الركود استسلام مطمئن للرؤى السائدة بحسبانها القول الفصل ونهاية التأمل رغم كل ما عرضه الواقع العملي من تحديات كبرى كان من الاجدر على حركة النضال العربي الاستجابة لها عبر عملية اعادة بناء لذاتها وإيجاد حلقة الوصل بين المشروع المحدد للأهداف الكبرى والواقع المتحرك على الدوام اي بين الثابت بوصه بوصلة ومرشدا وبين سيولة حدثية تبلغ احيانا درجة الارباك ان وضع الركود ومآلاته المفزعة التي ترجمت عن نفسها في تراجع المشروع العربي مقابل تقدم مشاريع ماضوية لا تاريخية يجعلنا في اوكد الحاجة الى شجاعة معرفية وسياسية تحث على فحص اسباب انحباس المشروع العربي ومن ثم اعادة بناء اسئلته وأجوبته من اجل فتح مجرى متجدد لهذا المشروع يأخذه من طور العطالة الى مضمار الفعل وسنحاول في هذه الورقة ومن منظور نقدي تحديد اهم النقلات الضرورية نحو بناء جديد للرؤية والنظر بشكل يعيد رسم خارطة الفكر والعمل استجابة لرهان الجدوى ان النقد مهمة تقدمية بحسبانه العملية المعرفية التي تزيح الغبار العالق من زمن الركود من اجل تجديد المشروع والبحث عن ملاءمته مع المتغيرات المتسارعة كما يعد النقد الذاتي شكلا من اشكال تخليق السياسة (من الاخلاق) عبر الاعتراف بالقصور ومن ثم بناء عقد الصدقية بين السياسي والمواطن غير ان النقد لايعني الانخراط في مسار المراجعة الكلية للإرث الفكري او التخلي عن منظومته القيمية وأهدافه الكبرى بل يروم اعادة البناء عبر عملية تفكيك وتركيب جديد للعناصر والانخراط في عملية ابداعية تقطع مع تقليد المحافظة باسم الوفاء كما تتجنب تقليد المراجعة التي قد تصل درجة نسف المشروع من اساسه ان هذه العملية تتطلب ثقافة سياسية جديدة ومتجددة وتستوجب جملة من النقلات المعرفية تحطم الأسيجة المعيقة للعمل وتشكك في كل اشكال الرضا الدوغماتي (من الدوغما) من اجل سيولة في العلاقة بين الجهد النظري والبراكسيس العملي ان اهم النقلات التي يتوجب على الفاعل السياسي ضمن المشروع القومي العربي انجازها : 1- الانتقال من التفكير ضمن اطار يوتوبيا الخلاص الى التفكير من داخل بهجة الانجاز وهذا الانتقال لايعني اجتثاث اليوتوبيا لأن حضورها يظل ماثلا في قاع كل المشاريع السياسية وخاصة الكبرى منها بل يظل ماثلا في كل المشاريع التي تقف على ارضية القيم بابعادها الخصوصية والكونية والمشاريع ذات المحتوى الرسالي اي مشروع الامة المتحفزة نحو انبعاث جديد فاليوتوبيا لاتموت الا داخل المنظور التكنوبيروقراطي الصرف منظور ٌ الملفات الباردة ٌ ان هذا الانتقال يعني الحد من فعالية اليوتوبيا في رسم السياسات ووضع البرامج العملية ويتم هذا التخفيف من وطاة اليوتوبيا والحلم عبر اقحام فعالية النقد واستحضار العقل النسبي حتى لا تتحول اليوتوبيا الى آلية تحشيد عمياء تقطع كل صلة بالواقع من جهة اكراهاته وممكناته ومن ثمة تغلق مسارات الفعل ان البقاء في افق اليوتوبيا قد يصيب القوى العاملة بانتظارية تقعدها عن الفعل وتتحول هذه الانتظارية مع الزمن الى ياس وشلل يصيب الفاعل السياسي .اما بهجة المكسب ولو كان جزئيا فانها الترياق الشافي من مساعي التيئيس تحت دعاوى بعد الهدف الكبير وعدم واقعيته في الافق المنظور ان واقعية الانجاز والغبطة الحاصلة بتحققه تجعل الفاعلين السياسيين ضمن مناخ نفسي تؤطره الثقة في امكان انجاز آخر على الطريق نحو الاهداف الكبرى وهذا المناخ يحفزالطاقات ويقوم بعملية تسريح لقنوات الفعل وازلة كل الرواسب التي عطلت سيلانه 2- الانتقال من الهوس بالناجز والنهائي الى رحابة مسار المراكمة لان الهدف الذي ترسمه قوى النضال يجب النظر اليه من زاوية كونه مشروعا يتطلب تحقيقه حيزا زمنيا تنجز فيه هذه القوى اهدافا مرحلية على مسار انجاز ذلك الهدف ليس الهدف برسم الانجاز النهائي والكامل وليس برسم القرار الذي ينتظر التنفيذ في الزمن المتعين لان بين نقطتي الانطلاق والوصول طريق طويلة يجب قطعها عبر انجاز المكاسب المرحلية وفي هذا الطريق قد تتفق مع قوى وتتعارض مع اخرى بحسب شروط اللحظة التاريخية وسلم الاولويات فيها والتفكير في الهدف من منظور التحقق الفوري هو علة الاحباط الذي قد يصيب قوى النضال ووحده الايمان بابداعية المراكمة قادر على انعاش ذهنية التقدم بثبات نحو الهدف على قاعدة ان كل خطوة هي مكسب يتم البناء عليه لانجاز اللاحق دون فتور او تراخ انه قدح زناد الارادة على اساس ان الوصول ممكن وذلك وحده مايجعل التاريخ الحي متوثبا يحث الخطى نحو افق مشروع الامة في التحرر والتقدم 3- الانتقال من منطق الحل الصحيح الى فاعلية الحل الملائم لان الحل الوحيد الصحيح قد يرتبط بالاهداف الكبرى كأن نعتبر الحل الصحيح لتجزئة الامة هو الوحدة ويبقى هذا الحل محمولا على التبشيرية والعقم الخطابي اذا لم يتم تصريفه الى صيغ قابلة للتنفيذ في الزمن المعلوم والمحدد كما ان مقولة الحل الصحيح قد تلغي التاريخ فكل زمن يمنح حلا ملائما بالنظر الى تعقيدات الواقع والقوى المتصارعة فيه وميزان القوة يختلف من لحظة لاخرى فقد يكون التعاون بين قطرين جارين في مجال ما خطوة مهمة نحو التكامل فالوحدة فيكون بذلك حلا ملائما في تلك اللحظة ان القوى المتشبثة باهدافها الكبرى مطالبة بان لا تطمئن للصيغ الانشائية الحبلى بلاغيا ولكنها فقيرة عمليا كما هي مطالبة باستيلاد الحل الممكن والملائم في كل مرحلة اذ على صعيد الحكمة العملية توجد سلسلة متصلة من الحلول الملائمة ولا يوجد حل صحيح واحد الا على الصعيد النظري ويبقى الحل الملائم هو الابن الشرعي للتاريخ وليس ابنا للمطلقات التجريدية كما يبقى الحل الملائم هو مركز جذب الطاقات نحو الفعل لانه من الممتنع ان تجمع الطاقات حول اهداف غير قابلة للقيس والتنفيذ الان وهنا 4- التحول من منطق التعارض الصوري الى ابداعية التعاضد على صعيد الواقع الحي فلا شك ان الدولة القطرية على سبيل المثال تتعارض مع مشروع الوحدة من منظور صوري سكوني ولكن هذه العلاقة فقيرة وغير منتجة عمليا ولا تمنح قوى النضال افقا عمليا لبلوغ الوحدة لان هذا المتعارض صوريا هو جزء من الواقع الذي نتحرك فيه بل هو الواقع عينه في حين ان المشروع لايزال قيد المنشود وينتظر التنفيذ حتى يصير واقعا وهذا الواقع يمكن ان ننظر اليه من جهة الممكنات وليس فقط من جهة المعوقات حتى نحد في هذا الواقع المرفوض حلقات نمسك بها وندعمها لنتجاوزه نحو المنشود القومي عبر بناء سياسات عملية تعطل مفاعيل العائق وتعلي من شان الممكن في اطار مسار تاريخي يكون فيه للعقل الاستراتيجي السلطان الاكبر ان هذه النقلات التي اشرنا اليها اعلاه هي مجرد اوليات لبناء رؤية وهي بذلك لاترقى الى مستوى الخلفية الفكرية الدقيقة فان هي الا مجرد الماعات وإشارات تنير الطريق وتكرس شكلا جديدا من التمثل الذهني والنفسي لقضايانا وتضبط عناصر اولية لرؤية لا يسمح حيز الورقة بتفصيلها انها رؤية تدعو الى تخليص المشروع العربي مشروع الانبعاث المتجدد من سجن المنظور الصوري السكوني لتزج به في ايقاع الحي والواقعي فالنظرية وحدها رمادية اما الحياة فخضراء على حد عبارة ٌ غوتة ٌ انها رؤية تروم تجاوز العطب ليس في مستوى البرامج السياسية التفصيلية بل ذلك العطب الذي يلوذ بالظل في اقاصي تمثلاتنا الذهنية وتهيؤاتنا النفسية من اجل فتح مجرى الفعل السياسي امام مكاسب العلمية وأفق النجاعة والجدوى وحمل الناس على اعادة بعث الامل من جديد في جدارة المشروع العربي على قاعدة ان نفكر ونعمل ونقيم ونصحح ونراكم والحياة برمتها مسار طويل او سبيل يجب ان نسير فيه لتحقيق اهدافنا وكما كان الفيلسوف هايدغر متاثرا بالهام الشاعر هولدرلن فلنبن افقا في الحكمة النظرية متاثرا بقول الشاعر العربي ابي القاسم الشابي : الا انهض وسر في سبيل الحياة ******* فمن نام لم تنتظره الحياة انها الدعوة الى الاقامة في الحياة وترك الانتظارية العقيمة لان المنتظر لن تسعفه سيولة التاريخ فلنكن في رحم الحياة لنبني من داخل هديرها وصخبها مشروعنا القومي العربي مشروع العروبة المتجددة مشروع العروبة الجامعة
عبد الفتاح الكحولي : كاتب وباحث من تونس عضو المكتب السياسي احزب الثوابت