قصة خلق آدم عند قدامى السوريين في أماكن الانتشار:
إن تلك النظرة التراثية العربية القديمة (الإنبات من بذرة من الطين) هي التي انتقلت فيما بعد مع العرب السوريين إلى مناطق انتشارهم في بلدان المتوسط، ولاسيما في اليونان وإيطاليا اللتين عمّرهما السوريون لأول مرة ونشروا فيهما لغتهم وتراثهم وكتابتهم، حتى أن أحداً لم يكن يتقن فن الخطابة ونظم الشعر وحتى الكتابة والقراءة فيهما غير السوريين أو المتحدرين من أصل سوري، مما دفع الشاعر جوفنال إلى القول الشهير:
«إن نهر العاصي السوري أخذ يصب مياهه منذ أمد بعيد في نهر التيبر، حاملاً معه لغته وعاداته وتقاليده وقيثاراته ورنات أعواده». وحتى في الزمن الذي نُعت بالإمبراطوري يقول آرثر بوك: «لقد تجلى التوسع الاقتصادي السوري في الولايات اللاتينية بعدد الجاليات السورية التي يمكن تتبع تاريخها منذ بدء الامبراطورية حتى نهايتها (الامبراطورية الرومانية – المؤلف)، وحصل استعمار حقيقي لبلاد البحر المتوسط، وخاصةً في القرنين الثاني والثالث من قبل السوريين، Syri، وهو لفظ أُطلق على السكان الذين أصلهم من شرقي المتوسط، وملأت السفن السورية البحر كما في الأزمان السالفة» (انظر: فيليب حتي، تاريخ سوريا ومن ضمنها لبنان وفلسطين، الجزء الأول، ص 383، نقلاً عن Arthur E،R.Boak, History of Rome to 565 AD, New York, 1930, P 319).
ومن هؤلاء السوريين الذين عاشوا في ايطاليا وجسدوا النظرة التراثية للخلق الكاتب والشاعر «وحيد» (أوفيد) في كتابه «التحولات» والمترجم إلى العربية تحت اسم «مسخ الكائنات». و«وحيد» هو اللقب الذي لحق به ولم يفارقه حتى مماته، ويعني: الوحيد، الفريد، المنفرد، المعزول، المنفي… والكلمة سريانية من الفعل «يحد»: توحّد، انفرد، انعزل، عُزل.. وقد لُقِّب بهذا اللقب بعد أن نفاه الإمبراطور أغسطس إلى بلدة «تومي»، التي هي كونستانتا اليوم في رومانيا، بسبب لم يُعلن على الملأ، لكنه كان مكشوفاً له وللمقربين منه، وهو كتابه «أنساب الآلهة» الذي كشف فيه أن الرومان يتعبدون لأرباب معلمين سوريين. وطبيعي أن صوت الحاء في لقبه كان إمّا أن يسقط أو يتحول، كما في أغلب الأحيان إلى V، وصار أوفيد.لقد كتب «يوحيديو» يقول:
«ولم يكن قد ظهر بعد بين الكائنات من اتّسم بطابع الآلهة وكان جديراً بأن يملك الذكاء الخارق الذي يتيح له أن يكون سيد سائر الخليقة. ثم كان أن خلق الإنسان، ولعل إله الكون هو الذي خلقه من بذرة مقدسة، أو لعلّ الأرض هي التي انطوت على بذرة من صلب السماء ساعة انسلخت من طبقات الأثير. ثم أتى بروميثيوس بن يافيثيوس (يافث) فقبض قبضة من تراب وعجنها بماء الأمطار، وسوّاها على صورة الآلهة المهيمنة على كل شيء، ولم يجعله على صورة الحيوان مخفوض الرأس، بل نصب قامته، وجعله مرفوع الرأس يتطلع إلى السماء والنجوم. وهكذا تحولت الأرض من كتلة غير مميزة إلى أشكال لم تكن معروفة حتى ذلك الحين، هي أشكال الناس».
إنها النظرة التراثية السورية نفسها: كل شيء خُلق من بذرته الخاصة به، وخلق الإنسان من «الطين»، ثم تميز بانتصاب القامة وارتفاع الرأس عن البشر البهائميين، فخلق «على صورة الآلهة»، «مرفوع الرأس يتطلع إلى السماء والنجوم» – وهذه العبارة تحديداً هي ترجمة عن النصوص السورية القديمة التي أوردها سانخونياتن في مرحلة الخلق الأولى، حيث قال: «منها جاءت الحيوانات ولكن بدون حساسية، وهذه بدورها وُلدت الحيوانات المدعوة شوف شمين». وفي الحقيقة إن هذا التعبير مؤلف من كلمتين هما «شوف» أي مراقبة الأفلاك والنجوم بالسريانية، وما زالت هذه الكلمة مستخدمة بالعامية حتى اليوم بمعنى أنظرْ. و«شمين» هي السموات ج «شمو» أي سماء.
أما عبارات أوفيد (وحيد) ذلك السوري العظيم، فإن فيها تلخيصاً للنظرة التراثية السورية حول قصة خلق الإنسان التي بدأت من بذرة في الطين، بالإضافة إلى تلك الومضة العبقرية التي تتحدث عن احتمال كون الأرض «انطوت على تلك البذرة ساعة انسلخت من طبقات الأثير»… إن مثل هذا القول لا يصدر إلاّ عن أناس معلّمين، أصحاب تراث فريد، علماً أن الغرب ظل يحكم بالحرق على كلّ من كان يصرّح بكروية الأرض حتى بداية عصر نهضته الحديث.