تلوّث:
كلّما اجتزتُ عتبةَ بيتي باتجاه الخارج – أو ما اعتدنا خطأً تسميتَه بالخارج ، وما هو بالخارج إلا منْ قبيل الوهم والتّصوّر –
يجرحُ إنسانيّتي ويجلدُ بصري ؛ مشهدُ مسوخيّاتٍ خلقها الإنسانُ الجاهلُ فينا ؛ هي بؤرٌ من المُستقذرات ، وأكوامٌ من القمامةِ التي باتتْ تحاصرُ أجسادنا ، وتؤلمُ أذواقنَا كيفما اتجهنا ، وأينما ولّينا وجوهنا ..!
والذّوقُ في الإنسانِ شعورٌ فطريٌّ تعكسهُ الفِطرةُ الإنسانيّةُ السّليمةُ التي تتعشّقُ الجمالَ ، وتنفرُ منَ الشّنَاعَةِ .
والشّعورُ في الإنسان هو معيارُ الذّوقِ ؛ فمَنْ سَما شعورُهُ ورهُفَ إحساسُهُ ؛ صفا ذوقُهُ وكَثُرَ حياؤهُ ، وانجذبَ إلى الجمال أنّى تجلّى لهُ ، ومَنْ غلُظَ شعورُهُ وماتَ إحساسُهُ ؛ انحطَّ ذوقُهُ وانعدَمَ حياؤه ؛ واختلطتْ عليه مصاديقُ البشاعةِ والجمالِ ؛ لِتستوي في ناظِرَيهِ كومةٌ منَ العوسَجِ ؛ وباقَةٌ منَ البنفسَجِ !
منْ جانِبٍ آخَر .. يمكنُ للذّوقِ أنْ يُنَمّى ويُصقَلَ عند عامّةِ النّاس ، بتهذيبِ مشاعِرهم ، وتحريضِ إحساسِهم بالجمالِ ، لتخرُجَ إلى العَلَنِ دفائِنُهم الفطريّة ، وتملأ حياتَهم بكلّ ما هو إنسانيّ وراقٍ وجميل . ولأنّ ذوقَ المجتمعات الإنسانيّة ما هو إلاّ مُنعَكَسٌ لذوق الأفراد ؛ فقد بتنا نعاني وبشدّةٍ منْ تفشّي ظاهرةِ اعتلال الذوق العام ، ولعلَّ منْ نتائجِ ذلك ما نشهدُه منْ مظاهر تمثِّلُ انتهاكاً لِحُرمةِ ذوقِ الفرد والمجتمعِ على حدٍّ سَوَاء !
أفَلا يُعدُّ اعتداءً صارِخاً على الذّوقِ العامِ ؛ إلقاءُ القَذارةِ في الشّوارِعِ والطُّرُقاتِ والمرافقِ العامّةِ ، وتحويلِها إلى بُؤَرٍ للبشاعَةِ والمُمرِضاتِ والرّوائِحِ المُنْتِنَةِ التي تؤذي العيونَ ، وتُزكِمُ الأنوفَ .. بلا أدنى إحساسٍ بالذّنْبِ أو شعورٍ بالحَياءِ !؟
أفَلا يُدلِّلُ على عطَبٍ في أذواقِنا أجمعين ؛ مشهَدُ الازدِحامِ الشديدِ بلا مُبَرّرٍ منطقيٍّ ؛ وعَدَمُ احترامِ أنظِمةِ المرورِ منْ قِبَلِ السّائِقِ والماشي والشُّرطيِّ بلا استثناء !؟
أفَلا يُشكّلُ تهديداً لِذوقِ أطفالِنا وشبابِنا انخفاضُ مستوى سَماعِنا للموسيقى واللحنِ الجميلِ ، وتسويقُ الصّخَبِ والكلِمةِ الخبيثةِ باسمِ التجديدِ والطّرَبِ الحديث !؟
أمَا نخشى ونخافُ على ذوقِ الأجيالِ عندما يتدنّى مستوى حِوارِنا معَ الآخَرِ إلى الحضيضِ ؛ فتحلُّ لغةُ الصِّياحِ والنِّطاحِ ؛ مكانَ لغةِ التّسامُحِ والانفتاحِ !؟
وخِتاماً أقولُ : يحقُّ لنا – ونحنُ بعضٌ مِمّنْ ذكَرْنا – بأنْ ندُقَّ ناقوسَ الإنذارِ بانخفاضِ مُؤَشِّرِ الذوق العامِ في مجتمعاتِنا !
وإنْ مرَّ في كلامنا شيءٌ منَ القسوةِ فلَطالَما قد قيلَ – وما أصدَقَهُ مِنْ قَولٍ : ( مَنْ أبكاكَ بكَى عليكَ ؛ ومَنْ أضحَكَكَ ضَحكَ عليكَ ! )
من كتاب (مملكة الإنسان) د. رامز