ولد جي دي مـوبـاسـان عام 1850 م في قصر (ميرو مسنيل ) بنورماندي الفرنسية ، على مسيرة خمسة أميال من ميناء (دييب) . ينحدر والده من أسرة أرستقراطية عريقة أفلست ، أما أمه فقد كانت من عامة الناس ، وبعد بضعة أشهر من مولده استأنفت أمه لور هوايتها المفضلة ، و هي حب التنقل .. فرحلت إلى مكان آخر في نورماندي ، و عندما بلغ السادسة من عمره ، انتقلت الأسرة مرة أخرى إلى القصر الأبيض ( شاتون بلان ) بالقرب من قرية ( أتريتا ) ..
و هو أول مكان وعته ذاكرته ، و أشار إليه في كثير من قصصه ، و في هذه الفترة بدأت العلاقة الزوجية بين والديه تتزعزع بسبب مغامرات الأب النسائية .
اهتمت والدة جي بالادب وأحبته كثيرا وسعت لتنمية موهبة ابنها الذي توسمت فيه الذكاء والملَكَة الادبية لذلك نجدها دفعته دفعا للدراسة ،، لكنه كثيرًا ما كان يهرب إلى متع الحياة العريضة ، فكان يتسكع على شاطئ البحر مخالطًا الصيادين والبحارة ، أو في السهول مشاركًا الفلاحين مباهجهم وحلقات سمرهم.
كانت أمه قد ألحقته بالكنيسة ، وأخذت تقرأ له مسرحيات شكسبير ، ولما بلغ الثالثة عشرة ، أرسلته إلى معهد ديني ؛ حيث كانت (الموضة ) وقتها هي إرسال أبناء النبلاء و الأرستقراطيين إلى مثل ذلك المعهد الذي تتميز نظمه بصرامة ( إسبرطة ) ورقة ( أثينا ) .. لكن جي طُرد من المعهد لسوء سلوكه في نهاية السنة السابقة لتقدمه لامتحان البكالوريا ، فقررت الأم إلحاقه بمدرسة في ( روان ) وما إن حصل على البكالوريا وبدأ يتلقى دروسه في القانون حتى شبت الحرب بين فرنسا و بروسيا ، فترك الدراسة و التحق بقسم الإمدادات بالجيش الفرنسي ، وكان يقضي أوقات فراغه في القراءة وكتابة القصائد الغزلية..ثم انتقل إلى باريس والتحق بوظيفة كتابية بسيطة في إدارة المستخدمين بوزارة التربية والتعليم ، وعاش في باريس وحيدًا يقرأ ويكتب ويتسكع في الشوارع ليلاً ، أو يذهب إلى نهر السين الذي يذكره بالبحر النورماندي ، وكلما تقدمت به الأعوام ، تضاعف شعور جي بالهم والاكتئاب ، و ازدادت نظرته إلى حياته تجهمًا، و لعل أثقل ما كان يؤرقه أن يبقى في المكاتب منحنيًا على الدفاتر والأوراق ، وهو الذي اعتاد الهواء الطلق والفيافي الواسعة وهذا ما جعله يتخذ من الكتابة الأدبية حرفة يتحرر بها من العمل في المصالح الحكومية ويكسب بها قوته ، ولذلك فإنه كثيرًا ما أطلق على نفسه لقب ( تاجر النثر ) .
وقد سعى جي دي مـوبـاسـان لتطوير قابلياته الادبية من خلال تتلمذه على يد كتّاب كبار كجوستاف فلوبير .. ووفي 25 من أبريل 1880 ظهر ديوان الشعر الأول – والأخير– له، وقد أهداه إلى أستاذه وصديقه الروحي فلوبير، لكنه لم يهنأ به؛ إذ داهمته الأحزان بعد أحد عشر يوما من صدور الديوان؛ فقد مات جوستاف فلوبير بالسكتة القلبية.. لكن موباسان لم يستسلم لأحزانه، و انغمس أكثر في عالمه الإبداعي، وبعد ثلاث سنوات، وتحديدا في 27 من فبراير 1883 بدأت صحيفة ( جيل بلان ) تنشر تباعا قصته الطويلة ( حياة امرأة ) لتنتهي حلقاتها في 6 من أبريل في السنة نفسها، أما سنة 1884 فتمتاز بزاد وفير من مؤلفات جي القصصية، ففيها كتب ( بل – امي ) أو حبيب القلب، تلك القصة التي أثارت ضجة الصحافة في باريس إذ اعتبرتها تشهيرا بالصحفيين، الذين شبههم بالعاهرات ووصفهم بأنهم يتردون في الرذائل، و يبتزون المال بالتهديد، و ينسبون لأنفسهم أحيانا ما يكتبه لهم الغير، ويفاخرون به سائر الكتاب والقراء !..
ربما يكون موباسان هو أول من كتب القصة القصيرة في شكلها الحديث المتكامل. كتبها قبله كثيرون بالطبع منهم مارك توين و إدجار آلان بو لكنهما لم يهتديا إلى ما اهتدى إليه موباسان من أن القصة القصيرة لا تحتاج إلى الوقائع الخطيرة و الخيال الخارق.. بل يكفي الكاتب أن يتأمل في الأحداث العادية، و الأفراد العاديين، لكي يفسر الحياة و يعبر عن خفاياها من خلال موقف أو لحظة من لحظاتها.
يقول د. رشاد رشدي عن قصصه :" لقد جاءت قصص موباسان مختلفة عن كل ما سبقها من قصص حتى أن الناس رفضوا أن يعترفوا بها في بادئ الأمر كقصص قصيرة، و لكن الأيام ما لبثت أن غيرت هذا الرأي، حتى أن أحد كبار النقاد كتب بعد موت موباسان بأعوام قليلة إن القصة القصيرة هي موباسان ، و موباسان هو القصة القصيرة ..
و هكذا سجل جي دي موباسان القصة القصيرة باسمه، كما يُسجل المخترعون اختراعاتهم، فسارت من بعده على الشكل الذي رسمه لها !
لقد أصبح موباسان من أشهر كتاب القصة، ليس في فرنسا وحدها، بل في العالم كله.. حتى أن الرسام الهولندي الشهير فان جوخ كتب لأخيه يقول:
" إن خير ما أعمله هنا أن أرسم النساء و الأطفال.. لكن لن يسعدني كل السعادة إلا أن يولد بين الرسامين من يضارع جي دي موباسان بين الكتاب."
بدأت نهاية موباسان المأسوية في الثامن من ديسمبر 1891 م عندما دخل في صراع مرير مع المرض القاسي إلى أن وافته المنية يوم 6 من يوليو 1893 م .. ليرحل عن الدنيا كاتب فذ كان قد شغل مكانة كبيرة في قلوب الفرنسيين، و ظلت الصحف ترثيه و تشيد بمؤلفاته.
رحل تاركا نحو مئتين و خمسين قصة قصيرة ، و ست روايات ، و ديوان شعر وحيد ، و مازالت هذه الأعمال تترجم إلى كل لغات العالم و تقرأ حتى الآن.. و قد كتب معظمها بين عامي 1880 و 1890 و من أهمها:
حياة امرأة ، الصديقة الجميلة ، بيتر وجون، إيفيت ، الغوريلا ، كتلة الشحم ، العقد الماسي ، المظلة ، قطعة الخيط ..
وتتميز روايات موباسان بالخصائص نفسها التي تتميز بها قصصه القصيرة من وضوح و بساطة و واقعية سحرية تعكس رؤيته الخاصة للحياة و البشر
إعداد : محمد عزوز