اللواء..!
كان لواء اسكندرون زمن الدولة العثمانية منطقة إدارية تابعة لولاية حلب، بعد خروج العثمانيين من سورية بقي سنجق الاسكندرونة تابعاً لولاية حلب إلى أنْ فُصل عنها وأصبح مستقلاً استقلالاً إدارياً، صار يُعرَف سنجق الاسكندرونة باسم لواء الاسكندرونة. بقيت هذه التسمية مستعملة إلى أن صدر قانون التنظيمات الإدارية في 10 كانون الثاني 1936، فأصبح لواء الاسكندرونة محافظة كبقية المحافظات السورية.
تبلغ مساحة لواء اسكندرون نصف مساحة لبنان تقريباً 4800 كم2 ويقع في أقصى الساحل الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، مكوّن من خمسة مدن رئيسية هي: أنطاكية واسكندرونة وجبل موسى والريحانية وأرسوز. طبيعة اللواء الجبلية تتكوّن من أربعة جبال بينها سهل العمق، تعبره ثلاثة أنهار شهيرة هي: العاصي، عفرين، الأسود.
احتوت مراسلات الشريف حسين مع مكماهون عام 1915 على إشارات واضحة بتبعية المناطق الواقعة جنوب جبال طوروس إلى الدولة العربية الموعودة (تعيين للحدود الشمالية للدولة على خط يقع شمال مرسين ـ أضنة الموازي لخط 37 شمالاً الذي تقع عليه المدن والقرى بيره جوك، أورفة، ماردين، فديان، جزيرة ابن عمر، عمادية، حتى حدود إيران).
تم تعيين قائد قوات الصاعقة مصطفى كمال أتاتورك قائداً للجيش العثماني السابع, كان مقرّه مدينة نابلس الفلسطينية. انسحب الجيش العثماني السابع بقيادة أتاتورك، نتيجة الهجوم الذي شنته القوات الإنكليزية في 19 أيلول 1918 على الجبهة الفلسطينية شمال يافا بقوة قوامها 200 ألف عنصر, ممّا أدّى إلى تفكيك الجيش العثماني الثامن وأسر عدد كبير من أفراد الجيش الرابع. بهذا الانسحاب تجمّعت بقايا الجيوش في منطقة رياق في 30 أيلول 1918 (منطقة رياق: مركز عسكري للعثمانيين قريب من دمشق وتقع شرق لبنان حالياً)، ليُعيدوا تجمّعَهم شمال حلب. عاود الجيش الإنكليزي الهجوم مرّة أخرى في 26 تشرين الأول 1918. أبدى الجيش العثماني السابع مقاومة كبيرة وشرسة شمال حلب (قبر الإنكليزي) وحافظ على مواقعه.
بعد أربعة أيام في 30 تشرين الأول 1918 رست البارجة أكاميمنون في ميناء موندروس في جزيرة ليمني اليونانية وتم التوقيع على معاهدة موندروس, حيث أوقفت الدولة العثمانية الحرب دون أي شرط. بعد يومين أرسل الصدر الأعظم أحمد عزت باشا وزير دفاع هذا القطاع إلى أتاتورك برقية يقول فيها: « بالنظر إلى بنود معاهدة فصل القوات, فإنه حتى لو لم يمتلك الإنكليز الحق والصلاحية في احتلال لواء اسكندرون, فإنه حق طبيعي لهم أن يستخدموا مرفأ اسكندرون بهدف تأمين مؤن جيشهم في نواحي حلب وكذلك السماح لهم بترميم طريق اسكندرون حلب ».
ردّ أتاتورك على البرقية بأخرى جوابية بيّن فيها تحفظه، معتبراً أنّ هناك فخاً وخفايا تكمن بين تفاصيل التفسير المختلفة لشروط المعاهدة: « إنّ فرض الإنكليز السيطرة على الجيش العثماني السابع بذريعة تواجده في سوريا هو على غرار ما فعلوه بالجيش السادس في العراق ». وتعقيباً على ذلك يقول أتاتورك: « إنّ حديث الإنكليز واهتمامهم منذ عدة أيام بقيامهم بإنزال في شواطئ اسكندرون وحديثهم عن ضخ الأرزاق من هناك إلى قواتهم في حلب بالرغم من وجود ملايين الأطنان من الأرزاق في حلب, ما هو إلا ذريعة للسبب الحقيقي لإصرارهم على الاحتلال تحت مسمى آخر، هذا السبب هو وقوع اسكندرون على خط الحدود الفاصل بين سوريا وكيليكيا للانطلاق نحو هدفهم الحقيقي وهو الأناضول لاحتلالها. وإذا لم تتخذ التدابير اللازمة سوف تتفكك الجيوش وسنضطر إلى الخضوع لإمرة الإنكليز ولن نستطيع الوقوف أمام رغباتهم ».
طالب الإنكليز كذلك بالسيطرة على الحدود العراقية وأصرّوا على احتلال الموصل واسكندرون, ممّا أدّى إلى تعاظم الجدل واستمرار المراسلات دون انقطاع وطلب الإيضاحات وتوجيه الأوامر. أصرّ مصطفى كمال أتاتورك على تبيان وجهة نظره لأحمد عزت باشا, قائلاً: « أؤكد لكم أنّ القصد ليس مدّ الجيش الإنكليزي في حلب بالغذاء, بل احتلال اسكندرون لقطع امدادات الجيش السابع الذي يتواجد في خط أنطاكيا – دير جمال – أخترين والذي يتحرك على طريق اسكندرون – قرق خان – كاتيا. وبذلك يجبرونه على الرضوخ والاستسلام كما فعلوا بالجيش السادس في الموصل ».
في 7 تشرين الثاني 1918 وردت برقية من الصدر الأعظم إلى أتاتورك مفادها حَلّ الجيش السابع وَحلّ قيادة تجمّع جيوش الصاعقة ووجوب انسحاب أتاتورك ليتم تعيينه قائداً لثكنة حربيات، لتجنب الصدام مع الإنكليز، وخشية من أنْ يقوموا بنسف معاهدة فصل القوات. أرسل أحمد عزت باشا في 8 تشرين الثاني 1918 برقية إلى قيادة الجيش السابع يقول فيها: « إن أتاتورك بأجوبته القاسية والفظة أزعجت الإنكليز وأدّت إلى مشاكل من الصعب إصلاحها. ذلك أدّى إلى أنْ تلقينا جواباً منهم يفيد بأنهم سوف يقدمون على احتلال اسكندرون وفي حال مقاومة ذلك سوف يعتبرون الاتفاقية المبرمة بيننا لاغية ».
وطأ الإنكليز في 9 تشرين الثاني 1918 والفرنسيون في 7 كانون الأول 1918 أرض لواء اسكندرون.
مع بدء الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان تبع اللواء ولاية حلب. كان لواء اسكندرون في اتفاقية سايكس بيكو موضوعاً داخل المنطقة الزرقاء التابعة للانتداب الفرنسي بمعنى أنّ المعاهدة اعتبرته سورياً. في معاهدة سيفر عام 1920 اعترفت الدولة العثمانية المنهارة بعروبة منطقتي اسكندرون وقيليقية (كيليكيا) (أضنة ومرسين) وارتباطهما بالبلاد العربية (المادة 27). لقد شكل اللواء جزءاً من المملكة العربية السورية التي قامت عقب نهاية الحرب العالمية الأولى قبل احتلالها من الفرنسيين. وبعد توحيد الدويلات السورية التي شكلها الانتداب الفرنسي، ضُمّ لواء اسكندرون إلى السلطة السورية المركزية.
كانت قد حدثت في المدن السورية مظاهرات واضطرابات ضد فرنسا دامت أربعين يوماً، طالب فيها الشعب بالاستقلال وإنهاء الانتداب على سورية. أذعنت فرنسا لهذه المطالب وعقدت مع سورية في 9 أيلول 1936 معاهدة تضمن لها الحرية والاستقلال والدخول في عصبة الأمم.
نصّت المعاهدة في المادة الثالثة على نقل جميع الحقوق والواجبات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي عقدتها الحكومة الفرنسية فيما يخص سورية أو باسمها، إلى الحكومة السورية بعد انتهاء الانتداب عنها. هذه المادة تضمن لأتراك اللواء في الوقت نفسه حق استخدام لغتهم في التعليم وإدارات الدولة، وإنماء ثقافتهم القومية، على النحو الذي نصّت عليه المادة السابعة من اتفاقية أنقرة. لكن تركيا رفضت إبقاء لواء اسكندرون ضمن الدولة السورية، واعتبرت النصّ الوارد في المعاهدة السورية الفرنسية غير كاف لضمان حقوق الأتراك، وطلبت تحويل هذه المنطقة إلى دولة مستقلة شأن دولتي سورية ولبنان، وإنشاء اتحاد فيدرالي بين الدول الثلاث. رفضت فرنسا هذا الطلب، استناداً إلى صك الانتداب الذي يمنع الدولة المنتدِبة من التنازل عن أي جزء من الأراضي المنتدَبة عليها، دون موافقة عصبة الأمم، وتُرِك لتركيا حق رفع هذه القضية إلى عصبة الأمم، للنظر في تقرير مصير اللواء بعد استقلال سورية.
شهدت الفترة التي أعقبت إجراء استفتاء 14 – 15 تشرين الثاني 1936, رفضاً جماهيرياً من كل أطياف لواء اسكندرون للانضمام لتركيا وأكدت الجماهير القرار الطبيعي بديمومة الانتماء لسوريا.
في 8 كانون الأول عام 1936 أرسلت الحكومة التركية إلى السكرتير العام لعصبة الأمم مذكرة تطلب فيها تسجيل الخلاف بين فرنسا وتركيا على مصير لواء الاسكندرونة بعد استقلال سورية، لبحثه في مجلس العصبة استناداً إلى المادة 11 من ميثاق العصبة، التي تقضي بوجوب اتخاذ المساعي الودّية في جميع الظروف التي من شأنها أنْ تؤثر في العلاقات الدولية.
في 10 كانون الأول 1936 نظر المجلس في الخلاف التركي – الفرنسي في مصير لواء اسكندرون بعد استقلال سورية. عرضت تركيا اقتراحها بإنشاء دولة مستقلة فيه شأن دولتي سورية ولبنان، وإنشاء اتحاد فيدرالي بينها. صرّح وزير خارجية تركيا في هذه الجلسة بأن ليس لتركيا أي مطمع سياسي في بسط سيادتها على لواء اسكندرون، وهي لا تقصد من وراء إثارة هذه القضية سوى حماية حقوق أبناء جنسها والمحافظة على حياتهم وحرياتهم.
في 15 كانون الأول 1936 ردّ رئيس الوفد الفرنسي على طلب تركيا موضحاً وضع أتراك اللواء بعد عقد المعاهدة السورية الفرنسية: « إن مواد هذه المعاهدة لا تؤثر في وضع لواء اسكندرون، ولا في حقوق السكان الأتراك لأنّ ذلك مضمون في اتفاقية أنقرة لعام 1921 التي أقرّتها المعاهدة السورية – الفرنسية ».
ادّعت الحكومة التركية في المذكرة التي قدمتها إلى مجلس عصبة الأمم، أنّ الأتراك في اللواء مضطهدون من قبل السلطة المحلية، وطلبت سحب القوات الفرنسية منه. كذّب مندوب فرنسا هذا الادعاء. اقترح مقرر المجلس السيد ساندلر إرسال مراقبين دوليين إلى اللواء لمراقبة الحالة فيه. عارض مندوب تركيا هذا الاقتراح، لكن المجلس وافق عليه بعد أن استنكف المندوب التركي عن التصويت.
في19 كانون الأول عام 1936 عيّن رئيس المجلس ثلاثة مراقبين أحدهم هولندي، والثاني نرويجي، والثالث سويسري، وطلب إليهم السفر فوراً إلى اللواء للاطلاع على الحالة القائمة فيه.
وصلت اللجنة إلى أنطاكية في28 كانون الأول 1936 وطافت في مختلف المناطق والنواحي، وتعرّفت على فئات السكان، واجتمعت مع وجهاء الطوائف وزعماء الهيئات السياسية والدينية واستمعت إلى مطالبهم، وعبّرت كل فئة عن أمانيها ورغباتها.
في12 كانون الثاني 1937 قام عرب أنطاكية والقرى المجاورة بمسيرة شعبية أمام اللجنة الدولية، مشى فيها ما ينوف على الأربعين ألفاً من العرب والأرمن، حملوا فيها الأعلام السورية، واليافطات التي تعبّر عن أمانيهم ومطالبهم، بالمحافظة على ارتباط اللواء بالوطن السوري.
في13 كانون الثاني 1937 زارت اللجنة مدينة الريحانية، فقام العرب فيها بمظاهرة، شارك بها أكثر من عشرين ألفاً من عرب سهل العمق، يحملون الأعلام السورية ويهتفون لسورية.
استُقبلت اللجنة في مدينة الاسكندرونة وبلدة السويدية وفي جميع القرى العربية، التي زارتها بمظاهرات عبّر فيها المواطنون العرب عن تمسّكهم بوطنهم سورية.
عادت اللجنة إلى جنيف تحمل الانطباعات التالية:
1- الأتراك لا يشكلون أكثرية السكان في لواء الاسكندرونة.
2- الغالبية العظمى من سكان اللواء تعارض ضم اللواء إلى تركيا.
3- الأتراك في اللواء ليسوا مضطهدين من جانب السلطة المحلية (أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية – مجلد 581).
أثناء وجود لجنة المراقبين الدوليين في اللواء، جرت محادثات ثنائية بين فرنسا وتركيا، انتهت في 24 كانون الثاني 1937 إلى اتفاق بين الدولتين لجعل اللواء منطقة مستقلة ذاتياً في نطاق الوحدة السورية، على أن تكون مجرّدة السلاح، وأنْ تضمن عصبة الأمم استقلالها.
اتخذ مقرر المجلس السيد ساندلر هذا الاتفاق بين فرنسا وتركيا أساساً لوضع تقريره الذي رفعه إلى مجلس العصبة، متضمناً مقترحاته الأساسية التي يجب أنْ يُبنى عليها نظام اللواء ودستوره الأساسي. وعهد بتاريخ 20 شباط 1937 إلى لجنة خبراء لصياغة النظام والدستور. شكّل رئيس المجلس هذه اللجنة من ستة خبراء، من الدول التالية: بلجيكا، هولندا، بريطانيا، السويد، فرنسا، تركيا. تقدّمت هذه اللجنة إلى مجلس العصبة بنظام عام ودستور أساسي. أقرّهما في جلسة 29 أيار 1937. وهكذا صدر القرار الأممي عن عصبة الأمم بفصل اللواء عن سورية الأم، وتعيين حاكم فرنسي عليه. وحُدّد يوم 29 تشرين الثاني 1937 موعداً لبدء التنفيذ.
تألف نظام اللواء من 55 مادة مُلخصة فيما يلي:
1- يشكل اللواء منطقة مستقلة، تتمتع بكامل استقلالها في أمورها الداخلية، وتدار أمورها الخارجية من قبل سورية.
2- يكون اللواء منطقة مجرّدة من السلاح، ويمنع فرض التجنيد الإجباري فيه، أو تشكيل قوات عسكرية، ما عدا قوات الشرطة اللازمة لحفظ الأمن والنظام.
3- يقوم الممثلون الدبلوماسيون والقناصل السوريون في الخارج برعاية مصالح اللواء ومصالح سكانه.
4- تكون اللغتان العربية والتركية لغتين رسميتين.
5- تقوم إدارة جمركية موحدة بين سورية واللواء ويكون لهما نظام نقدي واحد، وخدمة بريدية موحدة.
6- تسري المعاهدات والاتفاقيات التي تعقدها سورية مع الدول الأخرى على اللواء إذا لم تتعارض مع نظامه الأساسي.
7- تقوم كل من الحكومتين التركية والسورية بتعيين مفوض لها في اللواء.
8- يتمتع جميع سكان اللواء بحماية حياتهم وحرياتهم دون تمييز في المولد والجنس واللغة والدين. ويكون جميع المواطنين فيه متساوين أمام القانون في الحقوق السياسية والمدنية.
9- لمجلس عصبة الأمم سلطة الإشراف على شؤون اللواء، عن طريق تعيين مندوب له يقيم في اللواء، ويكون من الجنسية الفرنسية. وله حق الاعتراض على كل قانون أو نظام أو إجراء يتعارض مع نظام اللواء ودستوره الأساسي.
10- يحق لتركيا استخدام مرفأ مدينة الاسكندرونة في أعمال الترانزيت.
تألف القانون الأساسي للدستور من 37 مادة مُلخصة بما يلي:
1- تمارس السلطة التشريعية من قبل مجلس نيابي يتألف من أربعين عضواً، يُنتخبون لمدة أربع سنوات.
2- يجري تسجيل الناخبين، في أول انتخابات تجري في اللواء، من قبل لجنة دولية، يشكلها مجلس عصبة الأمم.
3- يكون التسجيل في الجداول الانتخابية على أساس طائفي وعلى كل شخص ذكر، بلغ العشرين من عمره أن يسجل نفسه أمام اللجنة الدولية في إحدى الطوائف التي ينتسب إليها.
4- تمارس السلطة التنفيذية من قبل رئيس اللواء المنتخب من قبل المجلس النيابي لمدة أربع سنوات، ومن قبل هيئة تنفيذية مؤلفة من رئيس، يختاره رئيس اللواء، وأربعة أعضاء مسؤولين أمام المجلس النيابي.
5- يضمن القانون الأساسي للمواطنين جميع الحقوق الأساسية والحريات العامة مثل: حق الملكية، وحرمة المساكن، وحرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية الصحافة.
بعد أن أقرّ مجلس العصبة نظام اللواء ودستوره في 29 أيار 1937، أدلى كل من وزير خارجية فرنسا إيفون دولبوس ووزير خارجية تركيا توفيق رشدي آراس بتصريح أمام المجلس، يتضمن قبول دولتيهما بالتسوية التي أقرها المجلس كحل نهائي لمشكلة لواء الاسكندرونة (مجلة عصبة الأمم، عدد أيار وحزيران 1937). كما أبرمت الدولتان: فرنسا وتركيا، في اليوم نفسه اتفاقيتين: الأولى تضمن استقلال وسلامة أراضي اللواء. والثانية تضمن سلامة الحدود السورية التركية.
استقبلت تركيا التسوية التي تمت في جنيف في 29 أيار 1937 بشأن قضية الاسكندرونة بالارتياح التام، واعتبرته نصراً للسياسة التركية، وأقيمت الأفراح والزينات في العاصمة والولايات التركية.
في 29 تشرين الثاني 1937، وهو اليوم الذي حدده نظام اللواء للبدء بتنفيذه، أقيمت حفلة صغيرة في دار الحكومة في أنطاكية، تلى فيها ممثل الحكومة بياناً باسم المفوض السامي الفرنسي الكونت دو مارتيل، أعلن فيه أنه سيستلم جميع السلطات في اللواء اعتباراً من تاريخ ذلك اليوم وحتى استلام حكومة اللواء مهامها. جرى إنزال العلم السوري عن دار الحكومة، إيذاناً ببدء تطبيق نظام اللواء.
قوبل إنزال العلم السوري الذي أقدمت عليه فرنسا بطلب من تركيا، بالاستنكار الشديد من جانب سورية وعرب اللواء، وقامت الإضرابات والمظاهرات ضده في جميع المدن السورية، كما اعتبرت المراجع القانونية إنزال العلم السوري عملاً مخالفاً لنظام اللواء الذي نصّ على أنّ اللواء هو جزء من سورية، التي تدير شؤونه الخارجية، وهو رمز ارتباط اللواء بسورية ولا يجوز إزالته.
في 10 كانون الأوّل 1937 انتهت اللجنة التي شكلها مجلس العصبة من وضع قانون الانتخابات. وينصّ في جملة مواده، على أنْ يسجل كل ناخب نفسه أمام لجنة الانتخابات الدولية في الطائفة التي ينتسب إليها، وليس له أن يسجل نفسه في غير طائفته. اعترضت تركيا على هذه المادة، وطلبت أنْ يُسمح لكل ناخب أنْ يُسجل نفسه في الطائفة التي يختارها، فاستجاب المجلس لهذا الطلب. تم تعديل هذه المادة على النحو الذي طلبته تركيا، كانت تبغي من وراء هذا التعديل التمكن من استمالة عدد كبير من ناخبي الطوائف غير التركية وتسجيلهم في قائمة الطائفة التركية بالاتفاق مع السلطة الفرنسية.
سمحت فرنسا لتركيا بفتح قنصلية عامة لها في أنطاكية. وقنصلية ثانية في مدينة الاسكندرونة. أصبح القنصل العام التركي في أنطاكية هو الذي يُسيّر دفة الأمور في كل ما يتعلق بشؤون الانتخابات. كما سمحت فرنسا لتركيا بإدخال أكثر من خمسة وعشرين ألف ناخب من تركيا إلى اللواء، وقامت السلطة المنتدِبة بتزويدهم ببطاقات هويّة اللواء السورية، التي يستطيعون بموجبها ممارسة حق الانتخاب.
في 21 نيسان 1938 وصلت اللجنة الدولية التي شكلها مجلس العصبة إلى اللواء لإجراء الانتخابات فيه. بلغ عدد أعضائها 26 عضواً، ينتمون إلى دول أوروبية، ليس بينهم فرنسيون ولا أتراك.
يقضي قانون الانتخابات بأن تقوم اللجنة الدولية في المرحلة الأولى بتسجيل الناخبين الذكور الذين بلغوا العشرين من عمرهم. فإذا انتهت من إعداد الجداول الانتخابية تباشر بعدها بإجراء العمليات الانتخابية.
في 3 أيار 1938 افتتحت اللجنة الدولية عمليات تسجيل الناخبين في قضاء الاسكندرونة وقضاء قرق خان، وانتهت منها في 30 أيار، وأغلقت مراكزها باستثناء مركز واحد في كل قضاء يبقى مفتوحاً لقيد المتخلفين.
حقق العرب في قضاءي الاسكندرونة وقرق خان، تفوقاً على الأتراك في عدد الناخبين المسجلين من قبل اللجان الانتخابية الدولية. إذ حصل العرب والأرمن على 11364 ناخباً، بينما حصل الأتراك على 9914 ناخباً (من تقرير اللجنة الدولية المرفوع إلى مجلس عصبة الأمم).
في 23 أيار 1938 افتتحت اللجنة الدولية عمليات تسجيل الناخبين في قضاء أنطاكية، هذا القضاء يزيد عدد سكانه على مجموع سكان قضاءي الاسكندرونة وقرق خان مجتمعين. يشكل الأتراك فيه ربع السكان تقريباً، بينما يشكل العرب والأرمن ثلاثة أرباع. وبعد إعلان نتائج عمليات تسجيل الناخبين في قضاءي الاسكندرونة وقرق خان، وانتقالها إلى أنطاكية، أصبحت نتائج التسجيل في اللواء مضمونة لمصلحة العرب، وأصبح فشل الأتراك بالحصول على الأغلبية مؤكداً.
بعد الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة بالنسبة لتركيا أذاع راديو استانبول في 28 أيار 1938 نبأ عن اتفاق سري بين فرنسا وتركيا، عُقد في جنيف في 10 آذار 1938 تعهدت فرنسا بموجبه ضمان أغلبية تركية في مجلس اللواء المقبل، وبما أن هذا التعهد لم ينفذ فقد قامت تركيا بحشد قواتها على حدود اللواء، وأنذرت فرنسا باحتلاله إن لم تف بتعهداتها. قامت فرنسا إثر هذه التحركات بإجراءات لتنفيذ تعهدها هذا. فأعلنته صراحة على لسان السيد غارو مندوبها في اللواء في اجتماع عقده في دار بلدية أنطاكية لزعماء الطوائف العربية والأرمنية. قامت فرنسا بإعلان الأحكام العرفية والطلب إلى اللجنة الدولية وقف عمليات تسجيل الناخبين لمدة خمسة أيام بحجة اضطراب حبل الأمن. استجابت اللجنة لطلبها ثم مدّدت هذه المدة لثلاثة أيام أخرى. اتخذت فرنسا خلال مدة وقف عمليات تسجيل الناخبين عدة إجراءات تعسفية تضمن غلبة العنصر التركي.
تقدّم المندوب الفرنسي السيد روجيه غارو باستقالته من منصبه وغادر المنطقة، وأسرّ إلى أصحابه أنّ ضميره لا يسمح له بتنفيذ سياسة دولته. أسندت فرنسا وظيفته إلى الكولونيل كوله. عندما استأنفت اللجنة الدولية أعمال التسجيل بعد توقف دام تسعة أيام، قامت المليشيات التركية بتطويق مراكز التسجيل في الأحياء والقرى العربية، ومنعت الناخبين من الوصول إليها، واعتقلت كل من يحاول كسر الطوق الذي ضربته حولها. احتجّت اللجنة الدولية على هذا الإجراء وأذاعت البلاغ رقم 14 تاريخ 9 حزيران 1938، وجاء فيه أنّ اللجنة أوقفت أعمال التسجيل بقصد السماح باستتباب الأمن، ولكنها تحققت أنّ قسماً من الأهالي خلال مدة التعليق كان موضع اعتقال وإرهاب وتخويف من جانب السلطة، وأنها احتجت بشدّة لدى المراجع المسؤولة على هذه الأعمال. وأنّ اللجنة تذكر أصحاب العلاقة أنّ نظام الانتخاب يعطي الحق لكل ناخب أنْ يقرر بملء حريته الطائفة التي يرغب الانتماء إليها.
قامت اللجنة بإرسال برقية إلى السكرتير العام لمجلس العصبة، أبلغت فيها عن أعمال الضغط التي مارستها السلطة ضد العرب، والتي ترمي إلى إرغامهم على التسجيل في القائمة التركية أو التخلي عنه. عمم السكرتير العام هذه البرقية في 13 حزيران 1938 على أعضاء المجلس.
إثر هذا الموقف الذي وقفته اللجنة، والذي يفضح تآمر فرنسا وتركيا على حرية الانتخابات، وتزويرهما لمصلحة الأتراك، أعلنت فرنسا وتركيا قطع علاقاتهما مع اللجنة وطلبتا من مجلس العصبة استدعاءها، وأخذت الصحافة والإذاعة التركية تهاجمها وتتهمها بالتحيز للعرب ضد الأتراك.
تحت وطأة الأحكام العرفية المطبّقة على العرب دون الأتراك، استمرت اللجنة في أعمال تسجيل الناخبين. فأقدمت السلطة على توقيف مخاتير القرى وممثلي الطوائف العربية لدى مكاتب التسجيل، كما أوقفت الزعماء والشباب العرب، وملأت السجون بالمعتقلين، فاضطرت اللجنة الدولية إلى إغلاق مراكز التسجيل.
أرسلت اللجنة الدولية تقريراً مفصلاً إلى السكرتير العام لعصبة الأمم جاء فيه:
1- وجّه المندوب الفرنسي الكولونيل كوله دعوات إلى رؤساء الطوائف، يطلب منهم أنْ ينصحوا أبناء طوائفهم بالامتناع عن التسجيل، أو التسجيل بالقائمة التركية.
2- عيّن في المناصب الإدارية أشخاصاً ينتمون إلى الحزب التركي.
3- أوقف أعضاء المكاتب الانتخابية من ممثلي الطوائف وزعماء الأحزاب غير التركية.
4- خلافاً لقرار فرض الأحكام العرفية تُركت حرية التنقل بين القرى لدعاة الحزب التركي.
5- أوقفت الصحف العربية عن الصدور دون الصحف التركية.
بتاريخ 23 حزيران 1938 اتفقت فرنسا وتركيا على إدخال 2500 جندي تركي إلى اللواء للمشاركة في حفظ الأمن مع القوات الفرنسية.
في 29 حزيران 1938 غادرت اللجنة الدولية اللواء إلى لبنان ومكثت فيه ثلاثة أسابيع، أعدّت فيه تقريرها النهائي الذي يقع في 150 صفحة ذكرت فيه جميع الأعمال التي قامت بها، والنتائج التي حققتها في التسجيل، والتي أظهرت تفوق العرب عددياً على الأتراك، كما ذكرت فيه أعمال الضغط والإرهاب التي مارستها السلطة ضد العرب. ورفعت تقريرها إلى السكرتير العام لعصبة الأمم في 30 تموز 1938.
بعد رحيل اللجنة الدولية في 29 حزيران 1938 عن اللواء جرت مباحثات بين فرنسا وتركيا، انتهت بالتوقيع على معاهدة صداقة بينهما في 4 تموز 1938، تضمّنت تعهد الطرفين بأن لا يدخل أحدهما في حلف ضد الآخر، وأنْ يعترف باستقلال لواء الاسكندرونة، ويطبق النظام الموضوع له من قبل عصبة الأمم فقط.
على مدى عام كامل عمل الحاكم الفرنسي في اللواء على تهيئة الوضع للمخطط السري بين تركيا وفرنسا. انسحب الجيش الفرنسي إلى أنطاكية، وفي 5 تموز 1938 دخلت قوات عسكرية تركية مدن لواء اسكندرون بقيادة العقيد الركن شكري قنتلي. سلّمت فرنسا اللواء إلى تركيا في 15 تموز 1938، مقابل ضمان دخول تركيا صفّ الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. في 18 تموز 1938 شُكلت لجنة عليا مشتركة، فرنسية تركية، للإشراف على الانتخابات، قامت هذه اللجنة بإعادة النظر في الجداول الانتخابية التي نظمتها لجنة عصبة الأمم، فألغت قيد 2080 ناخباً عربياً، وأضافت 947 ناخباً إلى القائمة التركية وسمحت لـ 500 ناخب بالتصويت للقائمة التركية.
لم تجر الانتخابات لأنّ القائمة التي رشّحها الأتراك أُعلن فوزها بالتزكية. نال الأتراك بموجبها 22 مقعداً في المجلس النيابي. وأعطي لبقية عناصر اللواء 18 مقعداً.
عقد مجلس اللواء (المُزوّر) جلسته الأولى في 2 أيلول 1938، انتخب فيها عبد الغني تركمان رئيساً للمجلس، وطيفور سوكمن لرئاسة الدولة، وتشكلت الوزارة برئاسة عبد الرحمن ملك وأربعة وزراء جميعهم من الأتراك ليس بينهم عربي واحد، وأطلق على اللواء اسم هاتاي.
عملت حكومة هاتاي على إلغاء التعليم باللغة العربية وإلغاء كافة المعاملات الحكومية بهذه اللغة، وتبني الليرة التركية كعملة رسمية، خلافاً للنظام الذي وضعته عصبة الأمم، وجعلت العطلة الأسبوعية يوم الأحد بدلاً من يوم الجمعة، وتبنت القوانين التركية.
عام 1939 أخذ شبح الحرب يخيم على أوروبا. استغلت تركيا هذا الوضع القائم في أوروبا، وحاجة الحلفاء إليها لضمّها إليهم، أو لإبقائها على الحياد في الحرب المقبلة، خاصة وأنها بعد معاهدة مونترو التي عقدت في 20 تموز 1939 أصبحت تسيطر على المضائق في زمن الحرب.
يقول المسيو بونيه رئيس وزراء فرنسا في مذكراته:
" كانت الحكومة البريطانية تحاول جاهدة لإنشاء سلسلة من الأحلاف، تشمل بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي وتركيا. وكانت بريطانيا وفرنسا راغبتين في الوصول إلى اتفاقية مع تركيا. لكن تركيا كانت ترفض كل اتفاق مع فرنسا ما لم توافق على ضم هاتاي إليها ".
في 12 أيار 1939 أعلنت بريطانيا وتركيا عقد اتفاقية بينهما، ترمي إلى إقامة تعاون مشترك حال حدوث عدوان يقود إلى حرب في منطقة شرقي البحر المتوسط. تتضمن هذه الاتفاقية فتح المضائق أمام الأساطيل الإنكليزية.
قدّمت بريطانيا إلى تركيا قرضاً طويل الأجل مقداره 16 مليون جنيه استرليني لتسليحها. بسبب الضغط الإنكليزي على فرنسا للاتفاق مع تركيا، وضغط الظروف الدولية القائمة في أوروبا أعطى بونيه لسفيره في أنقرة رينيه ماسيفلي صلاحية التوقيع على اتفاقية مع تركيا تشمل قضية هاتاي.
بدأت المباحثات الفرنسية التركية بين ماسيفلي ووزير خارجية تركيا سراج أوغلو في 15 أيار 1939 وانتهت في 23 حزيران 1939 بالتوقيع على اتفاقية تقضي بإلحاق لواء الاسكندرونة بتركيا. وأصبح يشكل الولاية 63 من الجمهورية التركية. لم تتضمن هذه الاتفاقية أي نص يحفظ لأكثر من 130 ألف عربي بقوا في اللواء حقوقهم اللغوية والثقافية، على النحو الذي نصّت عليه المادة 7 من اتفاقية أنقرة لعام 1921 بالنسبة لأتراك اللواء.
سُمح لمن أرادوا الهجرة، بنقل أموالهم المنقولة معهم، وتصفية أملاكهم غير المنقولة خلال ثمانية عشر شهراً من تاريخ توقيع الاتفاقية. لكن الحكومة التركية وضعت العراقيل التي من شأنها الحيلولة دون تطبيق هذه المادة، فوضعت يدها على أملاك الذين هاجروا من اللواء وصادرتها.
لم تعترف الحكومة السورية بضم اللواء إلى تركيا استناداً إلى المادة 4 من صك الانتداب الذي يُحرّم على الدولة المنتدِبة التنازل عن أي جزء من الأراضي المنتدَبة عليها. لا يزال عدم الاعتراف قائماً حتى اليوم.
لقاء هذه الهبة التي قدمتها فرنسا لتركيا على حساب سورية، عُقد في 19 تشرين الأول 1939 اتفاق فرنسي إنكليزي تركي لمدة 15 عاماً، يُشكل حلفاً حال وقوع حرب شرق البحر المتوسط.
بناءً على ميثاق عصبة الأمم آنذاك الذي تنص المادة الثامنة عشرة منه على وجوب توثيق الاتفاقيات التي تبرم بين الدول في السجلات الرسمية لعصبة الأمم، رفضت عصبة الأمم آنذاك الاتفاق جملةً وتفصيلاً وأعلنت عدم شرعيته ولم توثقه, ولازال الأمر سلخ اللواء غير شرعي إلى يومنا هذا في أوساط الحقوق والاتفاقات الدولية. حتى أنّ الديبلوماسي التركي اسماعيل صويصال يعترف قائلاً: إنّ قضية لواء اسكندرون لم تكتسب الدرجة الشرعية التي تؤهلها للحسم قانونياً لصالح تركيا في الأوساط الدولية.
بالرغم من أنّ اتفاقية 23 حزيران 1939 وملحقاتها تم التصويت عليها وقبولها في مجلس البرلمان التركي في 30 حزيران 1939 بالقرار رقم 3658 ثم أرسلت إلى السكرتاريا العامة لعصبة الأمم لكي تعمل عصبة الأمم على توثيق هذا القرار في سجلاتها بقبول دولي بناءً على المادة 18، لكن تم رفض القرار ولم يُوثق في السجلات الرسمية لعصبة الأمم إطلاقاً.
عبّر رئيس وزراء تركيا في تلك الحقبة سراج أوغلو في حوار أجراه مع السفير الفرنسي رينيه ماسيكلي في أنقرة في 20 كانون الثاني 1939 قائلاً: « من كل الأراضي السورية وضعت تركيا عينها على لواء اسكندرون فقط..! ".
يجب التأكيد على أنّ النسيج المتنوع لشعب لواء اسكندرون الذي يشكل فسيفساء من العرب والأتراك والتركمان والأرمن والأكراد والعلويين والسنة والمسحيين والاسماعيليين أبدوا رفضهم إلحاق لواء اسكندرون بتركيا. لكن الوضع الدولي قبل الحرب العالمية الثانية منع انتصار إرادة السوريين في قضيتهم المحقة في لواء اسكندرون.