.حول ادارة ترامب والحالة التي يشكلها حضوره في الساحة السياسية كتب الاستاذ محمد محسن :،
.ترامــــــب رئيــــــــساً للإمبـــــــراطورية الأمريــــــــــــكية
………….هل سيشـكل حالـة تغيـر نوعيـة تؤدي إلى انعطافة تاريخية ؟
………….أم أن الحـاجة البنيـــوية للنظام الرأسمالي تـحول دون ذلك ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضوع مهم للقراءة وللحوارـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من حق كل دول العالم ترقب السياسات التي سينتهجها الرئيس الأمريكي الجديد ترامب بتوجس وأحياناً بقليل من الأمل ، لأنها الدولة الأكثر تأثيراً على السياسات الدولية مالياً وسياسياً واقتصادياً ، ولأنها كانت تقود قطباً عالمياً واحداً أوحداً ، وعلى ضوء سياسة هذه الدولة المسيطرة ، يستطيع المتابع أن يستقرئ حركة التاريخ المستقبلي القريب وبأي مسار ستسير . ولكن وبعد ولادة القطب العالمي الجديد لم تعد أمريكا اللاعب الوحيد على المسرح الدولي ، مما سيحد كثيراً من غطرستها وقدرتها على البطش والتحكم بمصائر الشعوب متى شاءت ، وأن يدها لم تعد ممدودة وتطال أبعد بقعة تشاء فمسرحها كان القارات الخمس ،
ولكن السؤال الأجدر بالطرح أولاً هل للرئيس الأمريكي اليد الطولي في تفعيل وتوجيه السياسات الأمريكية ؟ ندرك أنه محاط بمستشارين من جميع الاختصاصات ، ولكن هو الذي يختارهم أي أنه يختار من يوافقه على الخطوط العامة لسياساته ، مما يؤهله لتوجيه دفة السياسات بخطوطها العريضة العامة ، ولكنه يبقى تحت رقابة ثلاث مؤسسات أخرى مؤثرة وقوية ولا يمكنه تجاهلها الا هي : الكونغرس بمجلسيه ، وممثلي الشركات العابرة للقارات ، والتي هي بالحقيقة ومن حيث النتيجة ثلاثتها تمثل جهة ضغط واحدة ، لأن الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ بجميع أعضائه جاؤوا إلى المجلسين كممثلين للشركات الأمريكية ، فالكل يضغط لتحقيق أو حماية مصالح الشركات التي حملته إلى الكونغرس ، حتى الرئيس غالباً ما يجيء محمولاً على ظهر شركات معينة ، إلا في الحالات المفصلية الاستثنائية ، التي تتراكم فيها أحداث نوعية تشكل راياً عاماً ضاغطاً يدفع بالسياسات الأمريكية إلى التغيير النوعي ، فهل جاء الرئيس الجديد " ترامب " من هذه الأرضية !!؟
.
قد يكون الواقع الاقتصادي الأمريكي قد شكل ضغطاً هاماً بهذا الاتجاه بالإضافة إلى التحول الأوروبي الواسع باتجاه اليمين نتيجة السياسة الخرقاء التي اتبعها قادته الحاليين ، والذين كانوا كأدوات تنفيذية للسياسات الأمريكية ، إلى الدرجة التي كادت تُفرط بسياستها المستقلة إلى حد التماهي الكامل مع السياسات الأمريكية ، مما دفع الكثير من الدول الأوروبية إلى انتهاج سياسات خرقاء أدت إلى وضع اقتصادي متعثر ، فكان من الطبيعي أن تستفيق النزعة القومية الأوروبية ، لإنقاذ هويتها وتمايزها عن السياسات الأمريكية ، وهذا ما سيؤول إليه الوضع الأوروبي وهناك تباشير تشير إلى ذلك ، يبقى القطب العالمي الجديد برئاسة روسيا ، الذي نمى وترعرع على الأرض السورية ، وأجهض بل أوقف التغول الأمريكي في بطشها بالدول الصغيرة التي لا تستسلم للسياسات الأمريكية ، وظهور منظمتي " شانغهاي " و " البريكس " التي شكلتا كتلة اقتصادية وسياسية كبيرة تمد القطب العالمي الجديد بقيادة روسيا بأسباب القوة ، كل هذا لم يوقف الزحف الأمريكي التأديبي فحسب ، بل سيدفعها للاستفاقة من غطرستها واستهتارها وضربها بالقوانين الدولية عرض الحائط ، وأن يدها لم تعد طويلة كما كانت مما سيدفعها لإعادة حساباتها على المستويين السياسي والاقتصادي .
.
فهل يمكن اعتبار كل هذه الظروف مجتمعة ، هي التي قادت إلى هذا التغيير الذي أوصل ترامب إلى رأس السلطة ،؟ بالرغم من أن جميع استطلاعات الرأي كانت ترجح نجاح كلنتون بفارق ليس بقليل ، وأن الغالبية العظمى من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة وقفت إلى جانب كلنتون وضد ترامب ، ومع ذلك فاجأ نجاح ترامب جميع الهيئات السياسية الدولية وكان بمثابة قنبلة ، مما دفع غالبية الدول وبخاصة أوروبا لدراسة مواقفها على ضوء هذا التغيير المفاجئ ، اما على المستوى العالمي فالبعض اعتبر وصول ترامب ايجابياً والبعض الآخر تخوف من وصوله .
بعض مراكز الأبحاث تشير إلى أن مجيء ترامب رئيساً لأمريكا سيشكل نقلة نوعية في السياسات الأمريكية الخارجية ، وبخاصة أن هناك تغييرات دراماتيكية ليس في أوربا بل في كل أنحاء العالم ، حتى باتت تعاني منها الدول الحليفة والتابعة والمحمية والملحقة بعجلة السياسات الأمريكية ، لأنها بدأت تشعر وكأن الحامي والنصير التاريخي بدأ بالتخلي عنها ، حتى أن بعضها راح يبحث عن ظهير خارج السرب الأمريكي ، ولكن الدول الأكثر تخوفاً هي محميات الخليج ، لأنها بدت لأمريكا وكأنها لم تعد قادرة على لعب الدور الذي أسند لها تاريخياً ، فضلاً عن اتهامها من قبل الكثيرين من السياسيين الفاعلين حتى ترامب اتهمها بأنها حامية ومسؤولة عن رعاية وحماية وتمويل الحركات الارهابية ، وأن الأرضية الفكرية لهذه الحركات جميعها تستند على الفقه الوهابي السعودي . وهذا نذير للتخلي .
.
على ضوء هذا الإطار العام الذي قدمناه للظروف المحيطة بترامب الدولية والداخلية ، واستناداً على قاعدة التطور التاريخية التي تقول " إن الاحتمالات التي تسعفها الوقائع الراهنة المتراكمة تصبح واقعاً " ، والوقائع المتراكمة الراهنة هي التي نستقرئها لنستنبط منها الاحتمالات المستقبلية التي نتوقعها ، بالإضافة إلى خطبه وحواراته سأحاول قراءة سياساته المستقبلية وذلك بتقديم صورة تقريبية قدر المستطاع ، لتوجهات هذا الرجل الذي سيجلس على كرسي البيت الأبيض كرئيس لأمريكا لأربع سنوات كاملة .
إن الظروف والقوى التي جاءت بترامب إلى القصر الجمهوري ، والتي جاءت من خارج القوى الضاغطة والمؤثرة التقليدية لأول مرة ، لابد أن تلقي بظلالها أيضاً على الحيثيات والسياسات التي سينتهجها ، والتي تبدو أنها ليست بنت المراحل الماضية ، كما أنها ليست استمراراً لها ، ولأن الرئيس الجديد غير مدان بنجاحه لذات القوى الاقتصادية المسيطرة التي عادة ما يكون لها اليد الطولي في تعيين الرئيس ، ولكن لا يجوز أن نتوقع تغييرات دراماتيكية ، بل ستأتي بخطوات تدريجية متصاعدة حد التمايز ، مع الأخذ بعين الاعتبار السياسات الخرقاء التي ورثها من اسلافه وبخاصة " أسرة بوش " والفشل المتتابع والخسارات التي تلقتها أمريكا في حروبها في افغانستان والعراق وصولاً إلى ليبيا ، والتي أكدت أنها تتصرف برعونة وخفة ، ومن خارج المؤسسات الدولية ، فهي لم تلحق الأذى بسمعة الولايات المتحدة العالمية حد الكراهية فحسب ، بل أرخت بظلالها وبمنعكساتها النفسية السلبية على الرأي العام الأمريكي ، وبخاصة بعد الذي نتج عن تلك الحروب الفاشلة التي استولدت الإرهاب المتوحش الذي نمى تحت رعايتها وعنايتها لتوظيفه في سياساتها ضد أعدائها بمساعدة المال السعودي ، والذي خرج عن الطوق ونمى وتوسع إلى الحد الذي بات يشكل خطراً ليس على المنطقة بل على العالم كله ، وستكون الكعبة وجهته الأخيرة وهدفه ، عندها ستعوي السعودية ككلب أجرب شارد ولن يكون لها من نصير.
.
كل هذه العوامل ستقلل من هيبتها وستترك بصماتها على الدور الأمريكي المستقبلي في العالم ، وستشكل ضغطاً يحد من طموحاتها التوسعية ، ويقلص من أدوارها في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص لأنها المنطقة التي تلقت فيها الهزائم ، وهذا سيدفع باتجاه تحجيم قواعدها في المنطقة إلى الحدود الدنيا ، لأنها ستوجه جل طاقاتها نحو الشرق الأقصى حيث بحر الصين ، والتي يعتبر خلافها مع الصين على الممتلكات البحرية هو التناقض الرئيسي.
مما سيدفع ترامب حتماً إلى اعادة النظر في تلك السياسات الشرق أوسطية ، وسيضع في المقام الأول التركيز على محاربة الإرهاب الآفة التي باتت تشكل خطراً على جميع الدول ، وهذا التوجه يتطلب البحث عن صيغ مقبولة للتعاون مع روسيا ، ومع حكومات المنطقة لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة ، عندها يحق له استثمار هذه المواقف الجديدة على الساحة السياسية ، والحرب على الارهاب ستدفعه دفعاً إلى تحميل السعودية وقطر وزر ما حدث من تنام لهذه القوى ، وسيرفع عنها الغطاء لأن أمريكا لم تعد قادرة على حماية هذه الأنظمة العتيقة المتهالكة التي تفرخ الارهاب ، والمدانة من جميع شعوب العالم والتي لم يعد يقنع وجودها لا الحليف ولا العدو ،
.
كل هذه السياسات والظروف الملابسة ستقود أمريكا إلى الانكفاء بالتدريج إلى الداخل ، والعمل على اعادة الشركات الأمريكية العاملة في الخارج إلى العودة باستثماراتها نحو الداخل ، لتقليص حجم البطالة المرتفع ، وتطبيق سياسة شبه حمائية لمنتجاتها ، وهذا سيؤثر على سياساتها الاقتصادية والسياسية مع أوربا والتي قد تصل إلى تقليص دور الحلف الأطلسي ، تمهيداً لحله لأنه لم يعد قادراً على القيام بدوره الذي خلق من أجله ألا وهو تخويف أوروبا من البعبع الروسي ، ولأن الحروب الكبيرة باتت مستحيلة الوقوع في زمن الصواريخ العابرة للقارات واسلحة الدمار الشامل ، وبعد توازن الرعب .
وبالعودة إلى خطبه المتتالية التي كانت تؤكد على مسألتين متناقضتين : اعتبار اسرائيل الحليف الأهم ، واعلان عدائه لإيران ، ولكن هذا الموقف ستحول دون تحقيقه سياسات أمريكا الانكفائية المفروضة عليها في الشرق الأوسط ، نتيجة خسائرها المتكررة والنجاحات التي حققها المعسكر الأخر على حسابها ، ولما كان الدور الاسرائيلي المسند لها تاريخياً مرتبط ارتباطاً عضوياً بحجم المصالح الأمريكية في المنطقة ، هذا يعني أن أي تقليص للمصالح الأمريكية في المنطقة سينعكس على الدور الاسرائيلي سلباً ، والأقرب للمنطق أن علاقاتها مع اسرائيل ستتناسب مع حجمها الآيل إلى الاضمحلال ، أما ايران فسيعلي السوط بمواجهتها متوعداً في أول الأمر ، لكنه سيخفت فيما بعد رويداً رويداً ، ليتلاءم مع القادم من التحولات الجذرية في المنطقة وفي العالم ومنها امكانية انضمام ايران إلى منظمة " شنغهاي " أو منظمة دول " البركس " فضلاً عن دورها المتنامي في المنطقة وتحالفها الذي بات استراتيجياً مع روسيا .
.
إذن نحن أمام انكفاء وتراجعات متدرجة للدولة الظالمة التي هدمت بلدنا وبلاد غيرنا أمريكا ، و سنكون لأول مرة أمام فرصة تاريخية ستتيح لنا الامساك بزمام مستقبلنا للسير نحو التقدم والعقلنة .