صديقة صديق علي.
ونحن في حفرتنا الباردة في أعلى صخرة نتسلقها ،رأينا حرائق تلتهم شجرة التوت فوق قبر الجد.
حيرتني قبورهم المترامية بالقرب من منازلهم ،إذ لا تجد مقبرة هنا بل اغلب نوافذهم تطل على موتاهم.
كانت الطائرات تقصف بيت الجد للقضاء على الارهابين ،و تقصف فينا وفاءنا لذكريات تركناها هناك فاخذنا نتشفى منهم بالدعاء عليهم بالفناء غير مدركين ماهية مشاعرنا.
مع دوي الانفجارات زاد إلتصاق زوجتي بي، وكأنها قطة مذعورة. أعاد إلتصاقها هذا لي شيئا من رجولتي التي أهدرتها حرب ضروس… فأحتضنتها مخبئا رأسها في صدري، وأنا أرقب ألسنة اللهب تأكل كل الأشجار المحيطة ببيت الجد وتشعرني بأمان مؤقت مطمئنا أن الباب الخشبي الذي بعته قد نجا من الحريق.
.
أتى صوتها من صدري نشيجاً :
_هل احترق قبر جدي؟
لا عليك فالأموات لا يموتون.
أراحني تبدد ارتجافها بين يدي، مع غمري المفرط لها عدت ملاذها بعد أن كانت ملاذي وهي تفتح لي بيت جدها تاركا خلفي إرث جدي لغرباء لا يجيدون لغته.
مضى نهار على وجعنا وجوعنا وعلى العطش أصبحنا في القرية التي كنا نخافها لأنها في المقلب الآخر فهنا كل يوم مظاهرات و هتافات تختلط مع قرقعة الطناجر.
لكنها اليوم بدت لنا هادئة يسكنها الخوف لا ناس فيها أين ذهبت أصواتهم لا أدري كل ماكان يشغلني سداد الرمق.
عند المغرب، وقفنا في ساحة القرية الخالية إلا من مصور تلفزيوني، ومراسلة غطت قبح وجهها بكثير من مساحيق التجميل . اقتربنا منهما فقفزا نحونا كمن عثر على كنز وبدأت عدسة التصوير تركّز على قدمي زوجتي المتسخة بعصارة عشب ممزوجة بالتراب والدماء حيث كانت قد فقدتا حذائها وجزء من جلدها عند آخر صخرة نتسلقها.
وقفت أحول بين العدسة وقدمي زوجتي لكن المصور الضخم جذبني من كتفي وكاد أن يركلني لولا تدخل المذيعة و قالت بصوت يشوبه الخبث:
_ماذا تريد؟
_أنتم ما ذا تريدون؟ ولما تصورون .
هي زوجتك إذا. قالت بلطف مصطنع:
-فقط لقطة لقدميها الداميتين ولن نصور وجهها لا عليك وينتهي الأمر. أمام إصرارها وجدتها فرصة للمساومة.
_كم تدفعين. قلت للمذيعة وعيناي مثبتتان على وجه زوجتي التي تبدلت ملامحها فبدت كلبوة في الأسر.
_كم تريد
_أريد طعاماً وماءً ومال.
لمحت الاستنكار في عيني زوجتي لكن الجوع والألم اخرسوها.
تبسمت المذيعة وقالت بلغة رجال الأعمال اتفقنا.
وأخذ المصور يطلب من زوجتي أن تسير على جراحها فوق الطريق المعبد بالذل.. وهو ينحني يتتبع بعدسته خطواتها.
بعد انتهاء المشهد التمثيلي ناولوني حقيبة ميدانية فيها طعام وماء ومبلغ من المال مع شاش وقطن معقم.تحت شجرة الزيزفون على حافة الساحة ضمدت لها جراح قدميها فقط مع يقيني أن هذا كل ما أستطيعه من تضميد. ومن ثم التهمنا طعامنا بنهم، و نستمع للمذيعة
وهي ترسل تقريرها الحماسي زاعمة :
(هنا من هذه القرية التي أبى سكانها الذل آلت على نفسها هذه المواطنة إلا أن تتظاهر لتسقط النظام بقدميها الحافيتين الداميتين وهي تهتف للكرامة).
ولم تمض دقائق من إرسال التقرير حتى توافد إلى الساحة بعض المتظاهرين وكانت جمعة الأقدام الحافية.
.