ميشيل كلاغاصي
15/11/2002
وسط المشاعر الجياشة رحب القطريون بقرار الفيفا بإقامة نسخة المونديال لعام 2022 على الأراضي القطرية , كذلك رحبوا لاحقاً بإطلاق شعار “مونديال قطر” , وبأنه “يمثل هويتهم العربية والقطرية” ، كونه مستوحى من الشال الصوفي التقليدي , ويتضمن الإشارة إلى عدد الملاعب التي ستقام عليها المباريات , وإلى تموجات الكثبان الرملية.
وللوهلة الأولى , وبعيداً عن الخلافات السياسية , والصراعات العسكرية الساخنة التي تعصف ببعض الدول العربية ودول المنطقة والعالم , تبدو السعادة والفرح تغمران المنطقة العربية والعالم , مع اقتراب الحدث العالمي , حيث انهمكت قطر ببناء الملاعب والفنادق وكافة مستلزمات العرس الكروي الدولي , لكن لم يطل الأمر حتى تلبدت الغيوم السياسية في سماء العرس الكروي , ولاح في الأفق ما يشي بخلافاتٍ جوهرية حول استضافة قطر للبطولة , وخرج بعض من سبق لهم أن وافقوا وصوتوا لصالح استضافة قطر للمونديال , ليكيلوا الإنتقادات , ويسلطوا الأضواء على الحريات والديمقراطية الغائبة في قطر, وهذا بطبيعة الحال يدفعنا للتساؤل , لماذا صمتوا ثم تكلموا وندموا , ألم تكن قطر هي قطر , أم السياسة والتسييس يسودان الزمان والمكان , مالذي قدمته قطر ونالت المكافئة بنيل شرف استضافة البطولة , وما الذي تغير في مواقفها , لتحصد غضب وإستياء وندامة البعض , وتتعرض إلى حملات إعلامية منظمة تستهدفها ومونديالها , على غرار الإستهداف الذي تعرضت له بكين أثناء استضافتها لدورتي الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية لنسخة عام 2022 , وبأن الغرب لن يتوان عن تحويل الأحداث الرياضية إلى مواقف سياسية وأسلحة “مؤلمة”.
إن العالم الذي تؤيده قطر وتتحالف مع رأس حربته في البيت الأبيض , وفي الغرب عموماً , هو ذاته الذي منحها مكانةً ودوراً يتجاوز حدودها ويتخطى مساحتها الجغرافية , وهي تعلم أنه عالم منافق , يرى عيوبها ويصمت لأجل مصالحه ولأجل أموالها , لكنه مستعد أيضاً لفضحها ومعاقبتها وعزلها والحرب عليها إن استدعى الأمر , ومع ذلك وضعت رهانها على “طاولاته الخضراء” , ونالت الكثير من دعمه , لدورها فيما سُمى بـ “الربيع العربي” , والدور التخريبي التحريضي الذي لعبته قناة الجزيرة على مدار أكثر من عقد ولا زالت , كما أتبعت سياساتها بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة والناتو , ناهيك عن الطبيعة الحميمية لعلاقاتها بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية الإخواني , ودعمت سياساته وتحركاته العسكرية وجماعاته الإرهابية ضد سورية وليبيا وغير ساحات , ووقفت خصماً عنيداً لنظام الرياض وعديد الأنظمة الخليجية والعربية , ناهيك عن مواقفها من صفقة القرن والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي الغاصب , ومدى تأثيرها على الداخل الفلسطيني , ورفضها المستمر والمتكرر لعودة سورية إلى جامعة الدول العربية , لقد كافئها الأمريكيون وصحبهم بمنظورٍ سياسي , وبشرف استضافة كأس العالم , كنتيجةٍ طبيعية لإخراجهم الحدث الرياضي عن سياقه الطبيعي , وتسييسه وفق أجنداتهم ومخططاتهم ومشاريعهم .
تعرف قطر أن الذهنية السياسية لأصدقائها الأمريكيين والأوروبيين والأتراك , لا تبحث من خلال الأحداث الرياضية عن السلام واللقاء والمنافسة الرياضية الجميلة , بل تسعى لمكافئة أو معاقبة أصحاب الضيافة الرياضية , عبر أسلحتها المعروفة “الشيطنة , تشويه السمعة , الحرية , الديمقراطية , حقوق الإنسان” , لتخفي ورائها الأسباب الحقيقية , سواء كان ذلك من باب المكافئة أو للعقاب , وهذا ما حصل مع قطر.
فقد سبق لرئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي أن دعت المجتمع الدولي لمقاطعة الألعاب الأولمبية الصينية , وأصدر البرلمان الأوروبي قراراً يحث الدبلوماسيين على تجاهل الألعاب الأولمبية , وتم توقيع وثيقة مماثلة في بريطانيا بزعامة وزيرة الخارجية ليز تروس ورئيس الوزراء جونسون – اّنذاك – , ناهيك عن إقتراح مجموعةٍ من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري ، بفرض المقاطعة الدبلوماسية , وطالب بعضهم بأن تكون المقاطعة دبلوماسية ورياضية , ووصفوا أولمبياد بكين 2022 بـ “أولمبياد الإبادة الجماعية”.
اليوم , ونحن على بعد عدة أيام لإنطلاق نهائيات كأس العالم في قطر ، لا تزال الصورة غامضة , لجهة عدد الزوار وإقامتهم , ومن المتوقع أن يصل إلى قطر حوالي 1.2 مليون مشجع وسائح رياضي من جميع أنحاء العالم ، بما يتجاوز سعة فنادق الدوحة بكثير, ويفرض على الضيوف مجموعة من الخيارات , كاكبائن وقرى المشجعين وبيوت العطلات ، إلى جانب السفن السياحية والمراكب الفندقية العائمة .
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة والإستعدادات التي قامت بها الجهات القطرية والدولية الرياضية , فإن ذلك لم يمنع إنطلاق موجة غير مسبوقة من الفضائح , والتصريحات السياسية القاسية , والردود القطرية على ما دعتها بالحملات المنظمة ضدها.
وتحدثت وسائل الإعلام عن إنهاء العقد المبرم بين قطر ومتقاعدي الأجهزة الأمنية الأردنية , على خلفية تصاريح متضاربة , مفادها تخلف 5000 متعاقد عن تدريب أمني , فيما تتحدث رواية معاكسة عن انهاء العقد بسبب سوء الأحوال المعيشية للمتعاقدين , وتم من حيث النتيجة الإستغناء عنهم وإعادتهم إلى بلادهم .
كذلك , تستمر وسائل الإعلام , ومنظمات حقوق الإنسان , والعفو الدولية , منذ أعوام , بالحديث عن حقوق العمال الأجانب ، الذين شاركوا في بناء الملاعب وغيرها من المرافق ، وقد تعرض بعضهم للإصابة وتوفي بعضهم الاّخر , وغالبيتهم من الهند وباكستان وبنغلاديش والفلبين , ولم تتوقف لأجل ذلك المطالبة والدعوات إلى الفيفا بمعاقبة قطر بفرض الغرامات والتعويضات , أو حتى استبعادها من استضافة المونديال.
وقد سعت قطر بكل ما تملكه من وسائل تأثير, لمنع تشويه سمعتها , وعرقلة استضافتها للمونديال العالمي , لكنها لم تستطع منع بعض الدول من إطلاق حملاتٍ منظمة للحديث عن حقوق الإنسان في قطر, وبأنها دولة لا تُحترم فيها “القيم والديمقراطية الغربية” , فيما أعلن عدد من الحكومات الأوروبية عن رفضهم السفر إلى قطر لدعم لاعبيهم.
كذلك سلطت الحملات الإعلامية الأنظار على “المعاملة اللاإنسانية للمثليين” في قطر, على الرغم من أن منظمي كأس العالم 2022 , تحدثوا مراراً وتكراراً عن ترحيب قطر بجميع المشجعين , بغض النظر عن ميولهم الجنسية أو خلفياتهم الثقافية أو العقائدية , كذلك تحدث مدير منتخب المملكة المتحدة بأن “كاس العالم في قطر لن تكون كما في الغرب” , لكن على جميع زوار قطر احترامها كدولة ذات ثقافة ودين وتقاليد مختلفة عن الغرب.
وفي25 تشرين الأول/ أكتوبر, ومن خلال لقاء تلفزيوني ، انتقد أمير قطر “التشهير المتعمد” المستمر للدولة ولنسخة بطولتها العالمية 2022 , و”الحملة غير المسبوقة” التي تتعرض لها بلاده , وأكد أن استضافة كأس العالم كانت “اختباراً رائعاً لدولة بحجم قطر” , وبأن “الحملة تميل إلى الاستمرار والتوسع لتشمل الإفتراءات والمعايير المزدوجة , ودفعت الكثيرين للتساؤل عن الأسباب والدوافع الحقيقية”.
كذلك انتقدت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيرز , منظمي كأس العالم 2022 و”أوضاع حقوق الإنسان في قطر” , وأكدت اعتقاد بلادها بأنه “من الأفضل ألا تُمنح البطولات لمثل هذه الدول” , وسارعت الخارجية القطرية للرد , واستدعت السفير الألماني في الدوحة للإحتجاج , وأصدرت بيان اعتبرت فيه أن تصريحات الوزيرة الألمانية “غير مقبولة واستفزازية للشعب القطري” , فيما دعا السفير الدائم لبعثة الدومينيكان في الأمم المتحدة إلى استبعاد المنتخب الإيراني واستبداله بالمنتخب الإيطالي , الأمر الذي دفع رئيس الفيفا لدعوة الجميع للتركيز على كرة القدم بدلاً من تركيزهم على الخلافات السياسية أو الإيديولوجية خلال كاس العالم.
من المؤكد أن قطر تدرك طبيعة الشر المتأصل في ذهنية وعقول أصدقائها وحلفائها وشركائها الغربيين , كما تدرك أنها ليست بمأمن عن استهدافهم ومكائدهم , مهما فعلت مثلهم ولأجلهم ضد أبناء جلدتها , وبأنهم لم ولن يوفروا فرصة لأذيتها عبر استغلال البطولة الرياضية والحدث العالمي , ويبقى الفيصل دائماً هو العامل السياسي , والمصالح الدولية الكبرى , وأن الحملات التي تتعرض لها ترتبط مباشرة بما يجري في المنطقة الخليجية والعربية , وبما يحدث في أكرانيا , وبالخرائط الجديدة لأنابيب الغاز والنفط وأسواقهما , وأسعار موارد الطاقة , وخصوصاً الغاز الطبيعي المسال الذي يعني قطر بالدرجة الأولى , الذي رفضت بيعه لألمانيا , لأنها وبحسب الوزير سعد الكعبي :”ملتزمة قطعاً بإحترام العقود” , وبأنها “لن تحول شحنات الغاز من آسيا إلى أوروبا هذا الشتاء” ، بالتزامن مع سعي الولايات المتحدة والإتحاد والمفوضية الأوروبية , إلى تغيير قواعد سوق الغاز لخفض الأسعار حالياً , والسيطرة على أسعار الطاقة مستقبلاً.
يبدو أنه على قطر الحذر حلفائها وشركائها , الذين يتربصون , لهز شباكها في مونديالها ….
ميشيل كلاغاصي
15/11/2022