ا.د عبد القادر العليمي باحث جامعي و اديب تونسي…
باحث و روائي من تونس
كان قلبي معطوبا وروحي مجروحة، نازفة، لكنّ ذاكرتي خزّنت بدقّة متناهية معاناة هروبي الشّاق من المدينة الكبيرة، فكأنّما حفظتها في شريط مسجّل يمكن أن أعرضه أمام عيْنيّ بصفاء ودقّة متناهييْن متى دوّرتُ الكاميرا العصبيّة المخفيّة بعناية في تلافيف ذهني!
ففي ذات المساء الشتائي الذي اقتحموا فيه بيتي، المساء الذي يظلّله الغمام والضباب، وتتجمّد فيه الكائنات من شدّة الصقيع، تزوّدت من أحد محال الموادّ الغذائيّة الصغيرة المنزوية بما قدّرت إنّي أحتاجه خلال رحلتي من ماء وغذاء مُعلّب وسجائر، ثم انسللت مثل لصّ خارج أضواء المدينة الكبيرة، فساقتني قدماي في رحلة التيه الذي سُلّط عليّ إلى دروب موحشة، معزولة، وهضاب جرداء، مترامية، وأودية سحيقة لا زرع ولا ضرع فيها، وإلى سلاسل جبليّة قاسية، وعرة، وبوادٍ يسيّجها الظّمأ ويظلّلها السراب، وإلى مدن كثيرة، وقرى متناثرة مررت بها، لكنّي لم أجرؤ على دخولها خوفا من أن يُكتشف أمري ويُقبض عليّ، وكنت أستعين فقط بعلامات الطريق المثبّتة خارج أسوارها لأسترشد بها في طريقي إلى حِزْوة!
وقد أشرفت على الهلاك خلال رحلة هروبي بعد أن قضّيت ثلاثة أيّام بلياليها في مسير مُضْنٍ طويل، لم أنم فيها إلاّ ساعات قليلة، متقطّعة، في بطون الوديان وفي كهوف الجبال، لأنّ برودة الشتاء قد بلغت ذروتها في تلك الأيّام، أمّا حين يتقدّم المساء ويحلّ اللّيل، فإنّ تلك البرودة تتضاعف إلى درجات قياسيّة يستحيل معها الاستلقاء أو النوم، لذلك كنت أنكمش على نفسي مثل قنفد برّي وأحاول إشعال النّار في أعواد الحطب الصغيرة والأغصان الضئيلة لأشجار الفلّين والزّان التي بدأت في جمعها منذ صباح اللّيلة الأولى لخروجي من المدينة، لكنّ أغلب محاولاتي كانت تبوء بفشل ذريع، بسبب رطوبة أعواد الحطب والأغصان، ونزول الأمطار المتقطّع بين حين وآخر!
وقد زاد على ذلك نفاذ زادي من الأكل والماء منذ صباح اليوم الثّاني، لكنّ كلّ هذه المنغّصات لم تزعجني أو تقلّل من عزمي، فكلّما فكّرت أنّ الكلاب تقتفي خطواتي وتلهث بعزم ورائي، ثمّ قدّرت ما ينتظرني من تنكيل وتعذيب، أو مصير غامض، مجهول، إذا تمكّنت منّي، إلاّ وازداد إصراري على مواصلة رحلة الهروب إلى الأمام، وكفرت بكلّ تفكير في التّراجع والاستسلام.
وأخيرا، عند مساء اليوم الثالث، شارفت على تخوم قرية حِزْوة، فانحدرت إليها عبر طريق صحراوي ذي مسالك خشنة، وعرة، تنتشر فيها الضواري، وتغوص في أديم رمالها المتحرّكة القدمان البشريّتان مثلما تغوصان في طين لزج، ثقيل، فلاحت ليّ أنوارها الباهتة من خلف سجف الضباب والعتمة الزاحفة، فكأنّما نبت العمران أمام عيِنيّ من العدم حتّى يُكتب ليّ عمرٌ جديد!
وحين انتهيت إليه عند هبوط الظلام، كانت أسناني تصطكّ من الانخفاض الكبير في درجة حرارة جسمي، يداي مجرّحتان، أصابعي مدماة من أثر الأشواك ونباتات الحسك والصخور الناتئة، أمّا ساقاي فمرتعشتان وقدماي متجمّدتان ومتورّمتان كبرتقالتيْن.
وقد أحسست أنّي أطوف في تلك اللّيلة الشتائيّة الباردة بقفر مهجور، لأنّ شارع القرية الرّئيسيّ الذّي يشقّها إلى نصفيْن، غربيّ وشرقيّ، قد بدا في امتداده من بدايتها إلى نهايتها، خاليا من الإنارة الكافية، ومن الحركة، وانعكست ظلال فوانيسه الكهربائية القليلة المغبّشة على الحوانيت التّجارية الواطئة، الجاثمة على جانبيْه بأشكالها المستطيلة والمربّعة، فبدت مثل علب كرتونيّة كبيرة مهملة، أو كائنات بدائيّة محنّطة!
كنت عند وصولي منهكا، جائعا ومُدمّى، فترائ ليّ الشارع المستقيم، الطويل، مثل متاهة إسفلتيّة تفغر فاها الرّماديّ لابتلاعي، ورغم الآلام المبرّحة التي كانت تنهش جسدي، فقد وجدت مجالا للسخريّة من العالم ومن نفسي!
ففكّرت باستهزاء:
– “إنّ المتاهة ليست تلك المنعرجات الكثيرة أو الخطيرة التي تلتبس على الإنسان فتدفعه إلى الخوف والجزع، بل هي الخطّ المستقيم في حدّ ذاته، لذلك فشرط النّجاة الوحيد، هو العثور على المنعرجات في ذلك الخطّ المستقيم، وليس في مكان أخر”!
وكأنّما أرادت الطبيعة أن تتأمر عليّ وتسخر من استهزائي، فاربدّت السماء في لحظة وغامت الأفق خلف سحاب أسود كثيف، ثمّ انفلقت رعود مزمجرة دوّت في أذنيّ كأنّها طلقات رصاص أو فرقعات ديناميت، وومضت بُروقٌ تشبه سيوفا مشعّة متقاطعة، فَعَلاَ دوّيها مثل جبال متلاطمة، وانهمر بعد ذلك وابل من مطر غزير اندلق فوق رأسي وساح عبر جسدي ونفذ إلى مسامّي!
جلدتني الأمطار مثل كرابيج غليظة لاذعة، فحاولت الاحتماء بواجهات الحوانيت المظلَّلة بأسقف بلاستيكيّة وأخرى معدنيّة، لكنّها كانت مثل مزاريبَ أو قِرَبٍ مثقوبة تدلق الماء فوق رأسي، وقد فاض الماء لغزارته فوق بالوعات الصرف الصحّي، فغمر شارع القرية الرّئيسيّ بطوفان صاخب، عنيف، متسرّبا بعد ذلك إلى الدروب الضيّقة والأزقّة الخلفيّة، فانكمشت على نفسي مثل خلد مذعور، وعندما أدركت أنّ الأمطار لن تتوقّف، وإنّي سأقضّي بقيّة اللّيل تحت رحمة تلك السيول الهادرة مبلّلا ومرتجفا، قررت أن أعدو بكلّ ما بقي في جسدي الواهن من قوّة، فعدوْت، وعدوْت، متّجها إلى بيت خالي في مدخل الجهة الغربيّة من القرية، وبعد ركض دام أميالا كثيرة لست أقدّرها، تراءت ليّ مساكن الجهة الغربيّة الواطئة بطلائها الرّماديّ الداكن، فبدت من خلف الظلمة التي تلفّ الأرجاء مثل دواميس قديمة، مهجورة، أو شواهد قبور متناثرة في مقبرة منسيّة، وعند وصولي إلى مدخل التجمّع السّكاني غاصت قدماي في وحل التربة اللّزجة، فتوقّفت عن الجري، ولم أكن أسمع أثناء توقّفي سوى لهاثي الذي يكاد يكتم أنفاسي وصوت المطر الذي لم ينقطع ومواء القطط الجائعة ونباح الكلاب السّائبة!