أبو طارق الجزائري
يحتفل الجزائريون بكل فصول السنة ، الربيع ، الصيف ، الخريف ، الشتاء ، يترقبون كل فصل ويتفاءلون بما يحمله لهم من بشائر خير تجلب لهم محاصيل زراعية وافرة ، فيقيمون احتفالات تتماشى وخصوصيات كل فصل ، في حين يكون 12 و 13 و 14 من شهر كانون الثاني رأس السنة بحسب الرزنامة الفلاحي ، أيضا يحيي سكان الشمال الافريقي عامة والجزائر على وجه التحديد مناسبة الربيع ، وعدد أيامه وفق التقويم المذكور 91 يوما ، يبدأ في 28 آذار الى غاية 29 أيار، تنظم خلال هذه المناسبة احتفالات متنوعة ، يرقصون ويغنون ويمارسون طقوس وعادات تبرز مدى تعلقهم بالأرض وتشبثهم بها ، إن أكرمتهم بخيراتها اطمئنوا وانبسطوا وعبروا عن فرحتهم بطريقتهم الخاصة ، وان واجهتهم بجفاف وقحط اضطرب حالهم وسادهم القلق وعدم الاستقرار وقد يلجؤون الى الترحال الى أي مكان يمكنهم من تجاوز صعاب تلك السنة ويوفر احتياجاتهم ، في انتظار سنة قادمة أحسن حظا من تلك التي حملتهم شقاء التنقل ، لذلك يستقبل الناس الفصول ويتفاءلون بما تحمله لهم من توقعات تضمن لهم انتاج زراعي وافر فحياتهم تعتمد أساسا على الزراعة ، فهم لا يحتفلون بالربيع فحسب بل يجعلون من فصول السنة كلها احتفالات ، بحيث يشكل الاحتفال بالدرجة الأولى فرصة تجمع شملهم في مكان واحد ، يتبادلون المعارف والخبرات والتجارب فيما بينهم معتمدين على كبار السن وما اكتسبوه من خبرة سنين ، كما تعد معارف الأجيال السابقة أهم المصادر التي يعتمدونها لحل المعضلات المحتملة التي تعترض سبيلهم ، وفق المثل القائل : ” اللي فاتك بليلة فاتك بحيلة ” ، سيتذكرون طبائع أسلافهم ومميزاتهم كلما دعت الضرورة ذلك
دأبت العائلات الجزائرية على الخروج يوم الربيع لمغازلة الطبيعة ، يقصدون المزارع والحقول ، خاصة النساء والأطفال الذين يجدون في هذا اليوم المناسبة التي تجلب السعادة الى قلوبهم ، فقد يصادفهم ربيع سبقته شتاء ممطرة ومثلجة تزيده رونقا وجمالا ، فتكون المتعة أرقى وأحلى ، ويظل ذلك اليوم ذكرى في قلوب الصغار والكبار يستحضرون حيثياته في مجالسهم ، الى أن تأتي مناسبة قد تكون أحسن تنسيهم تلك الذكريات أو أقل شأنا تعزز من قداسة ذكرياتهم المفضلة .
هذا اليوم ليس كسائر الأيام ، الاعداد له يبدأ من أسابيع طويلة ، بحيث تتولى النساء التحضير للمناسبة بإعداد اطباق خاصة من مأكولات تقليدية تميز كل منطقة ، فالربيع بدون مأكولات تقليدية لا يعني شيء ، مثل أكلة : لبراج المكونة من الدقيق والسمن والتمر الدلوك المسمى محاليل ” الغرس” ، تطهى على نار هادئة ليصبح اكلة بمذاق حلو للغاية ، كما تتخلل المناسبة العاب ببعض المناطق ، بمنطقة الأوراس مثلا تنظم مباريات تنافسية للعبة ” ثكورث ” المصنوعة من لفاف الصوف وشعر المعز على شكل كرة ، تلعب بمضرب من شجر الزيتون ، وتكون هذه المنافسة في ملعب مفتوح على الهواء الطلق ، يشارك فيها جميع شرائح المجتمع دون اقصاء ، نساء ، شيوخ ، صبايا ، شباب تتواصل اللعبة الى ساعات متأخرة من الليل ، كما تنظم تظاهرة الربيع بالأوراس بمنطقة ” منعة ” سنويا وبشكل مستمر ، في احتفالية موزعة على نشاطات متنوعة : اقتصادية ، رياضية ، فنية ، ثقافية .
وعدة الربيع بأعالي جبال ” شنوة “
تتعد أشكال الاحتفال بالربيع وتختلف من منطقة الى أخرى حسب جغرافية كل منطقة ، فتنوع التضاريس والمساحة الشاسعة للجزائر تزيد من تنوع ثقافة سكانها ، هذا الذي وقفنا عليه عند زيارتنا لأعالي جبال ” شنوة ” بمحافظة تيبازة القريبة من العاصمة الجزائرية ، لحضور الاحتفال بقدوم فصل الربيع المنظم من طرف جمعية ” نجوم جبل شنوة “، جمعية تهتم بتراث المنطقة ولها باع طويل في احياء المناسبات الثقافية يرأسها شاب فنان بارع ، فاذا كان الربيع بمناطق مقتصر على الخروج الى الحقول والاستمتاع بجمال الطبيعة ، هنا بأعالي جبال” شنوة ” تنظم ” الوعدة ” عند ضريح ولي صالح يسمى : سيدي براهم ، الذي يعود نسبه حسبهم الى الشيخ الهادي محمد بن عيسى المكناسي ، من مواليد مدينة مكناس المغربية ، وهو الأصل في الطريقة العيساوية ، التي منها جاءت المدرسة الفنية العيساوية المعروفة بالابتهال والذكر ولها روادها بالبلدان المغاربية ،
تقوم العائلات بزيارة الولي الصالح بأعلى الجبل ، بحيث تقطع مسافات طويلة عبر تضاريس صعبة في صبيحة الاحتفال ، للوصول الى المكان الذي هو ضريح الولي ، مؤمن في بناية خاصة تلف قبره ستائر خضراء اللون توقد بجانبه شموع من مختلف الأنواع ، يبدأ الابتهال والذكر في ساعات متقدمة ، وأحيانا جذب مع تراجع هذه طقوس الجذب والحضرة بشكل كبير برحيل العنصر البشري المسن ، وبروز أجيال حديثة تحمل أفكار متشعبة لا تستهويها مثل هذه الأشياء حسب ما أشار لنا بعض القائمين ، وعليه المناسبة أضحت اليوم ترتكز على ثلاث نشاطات رئيسة ، الذكر وتلاوة القرءان الكريم ، المدح من طرف جمعية تدعى لخوان ، وتناول أطباق الكسكسي وهو الأصل في ” الوعدة ” التي تعني الوفاء بالوعد لا بد أن يكون فيها اطعام الحاضرين كما يقول ذوق الملح على قول المثل الشعبي ” الملح إعكل ” ، كبح لأي خيانة ، ويعد حضورهم الى هذا المكان والقيام بهذه الاحتفالية التي لها صبغة فولكلورية محضة هو وعد يجمعهم بذلك الولي الصالح ، الذي قد يكون جدهم الأكبر أو أحد رموز المنطقة الضالعين في علوم الدين .
ارتبطت المناسبات الفصلية عند أهل هذه المنطقة ” بالوعدة ” عكس مناطق أخرى بالجزائر ، كما تتخذ من فلكلور المنطقة صبغة لجميع نشاطاتها ، خاصة وأن المنطقة يكثر بها الأسياد ، أينما وليت وجهك تجد ضريح يحمل اسم سيدي فلان وتطلق هذه التسمية على بلديات ومدن ومناطق واسعة ، سيدي أعمر ، سيدي غيلاس ، سيدي سميان …لكل ولي قصة منها حقيقة ومنها ما هو من نسج الخيال يرويها أشخاص ويدافعون عن صحتها بقوة ، وبالرغم من الأحداث التي عرفتها الجزائر والمنطقة أثناء العشرية السوداء بقية هذه الطقوس قائمة تمارس على نطاق واسع ، ما يعني أن هؤلاء الأسياد أو الأولياء الصالحين أضحوا جزء لا يتجزأ من التاريخ الثقافي لهذه المنطقة ويعدون من تراثها .
مكتب الجزائر ..أبو طارق الجزائري