د. نعمه العبادي- العراق
رغم ان علوم الاتصال تبلورت وتميزت بعناوينها المتداولة في الحقول المعرفية في وقت متأخر، إذ بدأت تباشير التنظير لها في بداية القرن العشرين، إلا ان الاتصال كممارسة حياتية اقترن وجوده مع اول لحظات الخلق، فأول وجود لكائن حي على هذه الارض سجل اول عمليات الاتصال مع المحيط الجديد، وهكذا يمكن القول بلا مبالغة ” ان تاريخ الاتصال قرين بتاريخ الوجود” .
يصنف الاتصال الى المباشر وغير المباشر، ويعرف على انه الاتصال الذي يجري بدون واسطة، وعليه يكون اول اقسامه الاتصال الذاتي، وهو حديث الانسان مع نفسه، إذ يجري الانسان حوارات داخلية (منه – إليه) سواء كان ملتفتا لها او غير ملتفت، وربما يمكن تصنيف الاحلام بنحو من التأويل على انها اتصال ذاتي يجري من خلال عملية معقدة تتم وفق ترسيمة عجيبة، حيث تصبح الذات مرسل ومتلقي في ذات الوقت مع اختلاف مقام الظهور والكينونة للذات المرسلة عن الذات المستلمة، فالاحلام واقع رمزي يتم ابتداعه وفق عمليات فكرية ونفسية وعصبية معقدة، لم يتم فهم حقيقتها بشكل دقيق وعميق الى هذه اللحظة مع كل ما كتب عنها ونظر لها.
وبالعودة الى الاتصال الذاتي، وهو محور هذا المقال، فإن هذه القراءة تقدم فهما جديدا له، فهو وفق هذه القراءة يتم من خلال واسطة وهذه الواسطة تختلف من شخص لآخر، بل تختلف في ذات الشخص من اتصال الى آخر، وتتكون هذه الواسطة من الحيز والمجال الذي يجري فيه التناجي من (أنا إلى أنا)، ويتكون هذا الحيز من (الذاكرة، المفاهيم، التصورات، زاوية اللحاظ، خصوصية اللحظة من حيث الزمان والمكان والاوضاع، المحيط القريب، المؤشرات النفسية والفلسجية) وهذا المركب لا يحضر بكل اجزائه في كل عملية اتصال، بل تحضر بعض اجزائه وتغيب اخرى وربما تحضر كلها في عملية اتصال واحدة، كما ان تراتبية التأثير لا تحضر في نسق ثابت، ففي كل مرة تختلف درجات التأثير، وربما في لحظة تفكير واحدة، يعاد تبادل الادوار بين هذه العوامل من خلال عملية نفسية تلقائية معقدة غير ملحوظة اي يتقدم عنصر ويتأخر آخر .
قد يتصور البعض حتى من المختصين في علوم الاتصال، ان هذا التنظير صدق او لم يصدق، لن يغير من نتيجة الاتصال الذاتي، وهذا فهم ساذج وخاطئ، فالتسليم بوجود وسيط لإتصالنا بذواتنا مكون من هذه التركيبة، يرتب آثارا عظيمة، تتعلق ب (قيمة الدليل الوجداني، الحدس، التأمل، الخواطر، الاحلام، الاضطرابات النفسية، الاعتقادات)، فالمجال الذي يتوسط الاتصال الذاتي وإن كان ذاتيا إلا انه يتشكل بطرق مختلف معظمها ليست ذاتية، بل منقولة ومستعارة من الآخر، فالمفاهيم والتصورات التي نختزنها عن الوجود كله، معظمها تمت من خلال مشاركة ونقل واستعارة من الاخرين، ولعل الكثير منها متأثر بصور نمطية وفهومات خاطئة، وبتوسط هذه المفاهيم والتصورات وغيرهن من عناصر الحيز الداخلي التي تمت الاشارة إليها اعلاه، تنتج لنا احكامنا حول العالم الخارجي، طبعا بسط الحديث عن دور الذاكرة في هذا المجال يحتاج الى مؤلفات وليس مقال وابحاث، وهو موضوع ثري وخصب وغير معمول عليه بشكل جيد.
الامر لا يقف عند حد موقفنا من العالم الخارجي، بل له صلة وثيقة بأشكال ونماذج الايمان والاعتقادات، ويدخل ضمن ذلك، الممارسات الصوفية والعرفانية وما يسمى بالترويض او الرياضات الروحية.
وخلاصة القول ان ما يسمى بالاتصال الذاتي المباشر بالاطلاق العرفي المتسامح ليس كذلك عند النظر إليه بدقة وتأمل، فهو اتصال عبر وسائط متكثرة ومتعددة تتشكل في حيز غير مرئي، وتؤثر بشكل جوهري على محتوى وشكل الرسالة وعلى نوع الاستجابة، والتي تتم كلها في اعماق الذات.