يتيح الفضاء الالكتروني لمستخدميه فسحة كبيرة لتشكيله بالطريقة التي يحبون في ظل إنخفاض مستوى الاكراهات التي تقيد ذات التشكل في الفضاء الواقعي، فإمكانية التلاعب بالمصداقية والمشروعية السائبة وتسور حدود الممنوع والمحذور وغياب الرقابة القادرة على الردع ووجود امكانية للإختباء خلف عناوين واسماء وهمية مع صعوبة التحقق من المعلومات والمدعيات والمجانية وسيولة المساحة، كلها اوضاع تجعل من رسم الواقع في هذا الفضاء اسهل بكثير مما عليه الامر في ارض الواقع، وينسحب هذا القول، على ادعاء المواقف والعواطف ونسج السرديات فضلا عن المدعيات المعرفية.
ان هذه الارض الهشة المستندة على طبقات من الزيف تجعل فحص مكوناتها غاية في الصعوبة فضلا عن فهم الانساق النفسية والاجتماعية والفكرية التي تقف وراء كل تشكل، ومع قطع المعظم بأنها ارض هشة إلا ان لعبة التلهي في هذه المساحة المجانية يجذب هذا المعظم ليكون جزء من خليط يتداخل فيه السليم والسقيم.
تكمن خطورة هذا التشكل المزعوم في زحفه التدريجي الى ارض الواقع ليقوم بعملية ازاحة بطيئة وزحزحة ما بين العشوائية والمنتظمة لمرتكزات وثوابت الواقع ويجبرها إلى الامتثال لمقولاته واعادة التشكل على وفقه، فهذا الوهم المختلق يعبر تدريجيا إلى حياتنا، فيعيد رسم الاقتصاد والسياسة والاجتماع وحتى الابداع والفن والادب حسب قواعده وعلى وفق منظوره.
ان ربطا مصيريا لكل فعاليات الواقع الحقيقي بخيوط هذا التشكل الموهوم تم بعناية في ظل مقولة اولوية المنفعة التي تتجسد في صور مختلفة، إذ يقوم اساطين جني المنفعة بجعل كل شيء (ماديا ومعنويا) موقوفا وجوده وديمومته على مدى قدرته على التكيف والتوافق والاشتغال في بيئة الفضاء الالكتروني، وهنا نحن امام خيار مصيري واحد ” إما التكيف وإما الزوال”.
لا يمكن الحديث عن وصفات جاهزة يمكنها ان تمد عصا سحرية فتغير هذا الواقع، كما ان فهم وادراك ما يجري لا يزال امامه مسافات من التفكير والبحث والنقاش الجاد، وما هذه الاسطر إلا خطوة في طريق هذا الفهم.