ربما يكون السؤال الذي تلقاه السارد في القصة الأخيرة من المجموعة القصصية التي حملت اسمها (دعابة الكاتب) للقاص عبدالله طاهر يمثل المدخل الأكثر قيمة في قراءة المجموعة، وفي الإحاطة بالمنحى الفكري أو المعرفي لفعل الكتابة نفسه بشكل عام. فالسؤال الذي أطلقه بعض الحضور من القرّاء في بهو الفندق في حديثهم إلى السارد/ الكاتب عن طبيعة بنية الشخوص في قصته (مفكّك الرسائل القبالية)، بالإضافة إلى مصطلح (مرجعيات القص)، والعودة إلى رأي روبرت شولز يشير إلى زحزحة لمصطلح الواقع أو الشخصية الحقيقية حتى في الكتب التاريخية، فالكتابة تأسيس خيالي.
والكاتب حين يضع هذه القصة المفتاح أو الملهمة والدالة في نهاية المجموعة يوجه نحو قصدية في معاينة التشكيل الفني لمجموعة القصص داخل مجموعته من جانب، ومن جانب آخر يؤكد على أن كتابة القصة القصيرة فن خاص في تولده وتشكله، فهي تنأى عن التخطيط المسبق الذي قد نجده في الرواية، لأنها ليست بناء قائما على الترابط المنطقي والتراتب، فهي- أي القصص- أبنية ذهنية معرفية في الأساس في توالدها، وفي ارتباطاتها الممتدة داخل وحدة زمانية خاصة بها، وهي ارتباطات قائمة على الشبهة في إدراك التشابه أو التناسب بين الأشياء خارج بنية زمنية ضاغطة، فهي تتمحور داخل بنية عقلية حدسية، فيصبح واقع القصة متمحورا حول أسئلة الإنسان في وجوده الفردي داخل الكون المصنوع من انفتاح فكري ممتد في العصور القديمة من الزمن بتأسيساته وطبقاته. وتأمل المنجز الكتابي بإضاءة هياكله ومفاصله ليست عملا قبل الكتابة، لكن بعد الانتهاء منها، وهذا يكشف عن أن فعل الكتابة فعل خلق مقدس، لا تفكك أطره بشكل مدرسي، ولكن من خلال العناء والدوران داخل فعل الكتابة نفسه.
فالكتابة القصصية في هذه المجموعة- ووفق منطق القصة الأخيرة- عبارة عن تشظ وجودي للكائن داخل إطارين لا ينفصلان، إطار يمثل نثريات الحياة، وإطار يمثل التكوين الفكري والعقلي الممتد، وكل إطار منهما يؤثر في الآخر، ويغير في طبيعة وجوده، ومقاربته للوجود. فعالم الحياة أو عالم القصة لا يتم اختياره بمعزل عن الفكري أو المعرفي الممتد، لأن الأخير له السلطة العليا في اختيار المثير أو مولّد الشغف، ومن ثم فعالم الحياة لا يمثل التتابع الزمني، لكنه يتجلى في النثارات الملازمة التي تؤسس لاختيار أو توجه نحو شغف ما، في تتبع شبهة التناظر، والاندياح وراء طريقة في الكتابة، ونحو رؤية ومقاربة لهما صور شبيهة في السابق.
فالشبهة- أو إسدال التناسب والتجاوب بين بعيدين- تتمحوّر حول فكرة الكتابة الأدبية بشكل عام، لأنها الطريق الوحيدة نحو استنبات أفق ما من آفاق سابقة، من خلال إدراك التشابه أو التداخل الذي يولد الاستعارة في معناها الواسع في تداخل الأفكار. فوفاة بورخيس في القصة الأخيرة تمثل نثارا واقعيا، ولكن هذا النثار الواقعي يمثل ضربة التداخل بين الذاتين، أو بين الأناتين، تجعل السارد يقول (لقد وقع السهم في الهدف)، لكي يشير إلى ولادة الشغف أو حضور التشابه، وقيامه بفعل الإدراك الفني الخاص بخلق عالم جديد مولّد من عالم قديم، يدور في إطاره ومناحيه المعرفية الخاصة ببورخيس، ولكنه يخلق مداره الخاص بفعل الكتابة.
والنوع- أو حدود النوع- في ظل هذا التوجه الكتابي دائم التأجيل، ومنفتح على جدة في كل مرة، ففي كل مرة يؤسس جوهره من نثارها الخاص الخارج في اختياره عن حدود المكان الذي أصبح مكانا فنيا بمسّ السابقين، وخارج الزمن الذي أصبح زمنا ممتدا لأن هناك تشكلات سابقة تطل، وتقوم بوظيفتها في تجليه، فالقصة القصيرة- في رأي بيرجر وبيرنز- مرآة، ولكن ما ينعكس ليس بالضرورة صورة الواقع الحية، ولكنها صورة العقل البشري. هي كتابة أشبه بالإيقاع الموسيقي الذي يمتد في شكل دوائر متلاحمة خارج الحواس، فتصبح بنية متعالية تصنع وجودها الخاص مشدودة إلى دوائر سابقة.
الميتا سرد ومحو النثار الواقعي
وراء هذه الكتابة القصصية الخاصة بالميتا سرد وإشكاليات النوع وتراتبه، أهداف مهمة، فهي تلحّ على خصوصية النوع، وعلى خصوصية التشكيل الخاص بكاتب القصة القصيرة والملامح المشتركة، بداية من الشكل الخارجي العام مع كل جيل، فمع جيل تشيكوف كانت اللحية الصغيرة المذببة كاشفة عن نسق التشابه، أما مع جيل الكتاب الثلاثة الذين التقى بهم في أمستردام، فهناك تناظر شكلي، حتى ولو لم يطلقوا لحية صغيرة، فهم مثل شرطة مكافحة الشغب.
في (دعابة الكاتب) هناك اشتغال في مجمل القصص على إشكاليات النوع، وطبيعة وضع وتراتبه داخل الأنواع الأدبية من خلال الصفات المقدمة لها على ألسنة بعض الشخصيات في بعض القصص، مثل (الفئران الصغيرة)، أو على لسان أحد الناشرين حين يصفها (نفاية الأدب). وعلى هذا الأساس تلحّ قصص المجموعة على صناعة جدارة لهذا الفن نابعة من خصوصية مقاربته ورصده منذ بدايته الأولى، حيث ينطلق من السردي، ولكن لجذوره الشعرية والفكرية لا يبقي على هذا السردي، ويتعاظم عليه، فيجعله أداة لتشكيل المعرفي، خارج حدود القيد الزمني، من خلال الانفتاح على التجاور الممتد لتشكلات الفكرة.
في قصة (اختفاء يد موزارت) ليس هناك حضور لبناء تقليدي قائم على النمو أو الحركة أو التتابع، ولكنْ هناك حضور لعوالم القصة أو لنثارها الواقعي المفرّغ قبل التشكل، أو إذا شئنا الدقة هناك حضور لجزئيات العمل أو الفضاء قبل الكتابة، وكأن في الوقوف عندها بعد كتابة القصة ونشرها نوعا من الحركة بين السرد والميتاسرد، لأن هذه الحركة ستكشف نوعية المقاربة وخصوصيتها، في تحويل هذا النثار الواقعي إلى خلق جديد يتعاظم على محدودية زمانية ومكانية.
وتتشكل حدود الميتاسرد في جزئيات عديدة بالمجموعة، فهناك حديث عن الخطية التي يفرق منها السارد في قصة (القرن الذهبي)، فكتابة القصة القصيرة وفق هذا التصور لا تتم في الإطار الخطي، وتحتاج بالضرورة إلى هيكل بنائي خاص، يستند إلى حدث خارج عن النمطية، ليصبح العالم بعده غير العالم الذي قبله، فالقصة القصيرة تحدث اهتزازا في نسق الوعي بالحياة، من خلال حدث يشكل خروجا عن المألوف مثل خنجر كاتب القصة في ظهر الناشر، وتداعيات ذلك وأثره في الرجوع إلى طبقة قديمة للحدث من خلال مغامرات الروائي (راندي واين)، وطعنه بسكين من خلال عملية إرهابية في بيرو، أو مثل حدث الشخص الذي يصاب بالعمى فجأة في انتظار تحوّل إشارة المرور من الأحمر إلى الأخضر، وما تجاوب مع هذا الحدث الجزئي الفارق في مقاربة العالم من إشارات واستدعاءات نظرية حول القصر والطول في الكتابة السردية، وارتباطها- في القصة القصيرة في علاقاتها بالرواية- بمكوّن شكلي بنائي داخل رأس مبدعها محملة مثل الزنبقة اليابانية بكل عيوب النوع الأساسي الأكبر منها.
تلحّ قصص المجموعة على قيمة العمارة البنائية للقصة القصيرة، وأن هذه البنية المعمارية ليست ساكنة أو ثابتة، لأنها مرتبطة بشيئين، المثير الواقعي، والامتدادات الزمنية السابقة لهذا المثير في تشكلاته، وهذا الارتباط الثنائي يخلق زحزحة للخطية السردية، ويؤسس بنية منفتحة، لتصبح مشدودة إلى مدارات الفكرة وطبقاتها من الآني إلى الماضي، ومن الماضي إلى الآني، وكأن الزمان أصبح دائريا أبديا يتفلت من التعاقب والتراتب، فالقصص كلها تحرّف مؤسسات القصة الواقعية، ليحيل البناء الهيكلي لقصص المجموعة إلى أبنية فكرية ممتدة لمقاربة الأفكار، وتوالد الفصائل الإبداعية من خلال كتّاب يشكلّون خيطا إبداعيا للغواية، أو لصناعة الشغف، بوصفه حالة أولى للانتباه، ويأتي فعل الاختيار والانضمام إلى نسق إبداعي دون آخر مرحلة تالية كاشفة عن الالتحام، حتى تظهر الإضافة، وتتكوّن طبقة جديدة من الطبقات السابقة.
ويمكن تأمل كل ما سبق من خلال الوقوف وقفة متأنية أمام قصة (اختفاء يد موزارت)، فالقصة تقدم بناء هيكليا معماريا كإطار خارجي، مما يكشف عن معمار يتكوّن بالتدريج من خلال وعي نام قيد التشكل، فمعمار بناء القصة وعي مؤجل داخل عقل الكاتب، يكتمل باختيار اللحظة الحاسمة من خلال جزئيات ونثارات الواقع. ومن ثم فالقصة لا تقدم داخل هذا الهيكل البنائي بناء خطيا للسرد في الكشف عن شخصية السارد الذي جاء في صيغة التكلم، ولا شخصية المرأة مدير تحرير المجلة التي نشرت قصة السارد (العين المتوحدة،) ولكنها تتعامل مع العالم بما فيه من شخصيات بوصفها علامات ورموزا، فحين يقول السارد عن نفسه ( كاتب وماسوني سابق) تصبح عملية الترميز فاعلة في تحديد الأطر والارتباطات، وكيمياء التعرّف والقبول بين الشخصيتين من جانب، وفي خلق حالة من تجاوب الرموز المختارة، فيشير إلى الساعة في يدها، وحرف G في المينا، بالإضافة إلى أن المقهى اسمه (G). ويتولد نتيجة لذلك أسئلة تتعلق بالفكر الماسوني وعملية الكتابة، ليس من منطق أيديولوجي، ولكن من منطق التجاوب بين شخصين أو عالمين أو أناتين، بوصفه كاشفا عن المعرفة والتداخل.
فالكاتب ليس معنيا بكتابة قصصية إو إنشاء معمارها بالشكل المستقر المعهود، فهو لم يشر إلى قصة العين المتوحّدة بشكل مباشر، وإن كشف شيئا عنها من خلال الإشارة إلى عوالمها وجزئياتها الأولى الخام، وإنما أراد- من خلال الكتابة- أن يعيدنا إلى مقاربة أسئلة مرتبطة بالكاتب والمكتوب، وبالنص والعالم أو العوالم التي مارست تأثيرا وحضورا في عملية الكتابة، وكأنه يعيد مقاربة الأشياء التي تسربت إلى قصته بعد أن زال عنها وهج الفن أو وهج الشبهة والتداخل، مشيرا إلى الترابط الفني الذي عبر عنه في القصة. لكنه هنا يعمل على تفكيك هذه الروابط، ومساءلة الرموز والأطر التي كان لها دور في عملية الصياغة.
الكتابة هنا ليست معنية بالقصة، ولكنها معنية بجزئيات الكتابة ونثارها وأدواتها الغفل التي اكتست واكتسبت وجودا مغايرا بعد الكتابة، وكان الكاتب قام بما قام به بابلو بيكاسو في قول السيدة دي فريز(عندما بدأ الرسم بالطريقة التكعيبية كان الاهتمام وقتذاك قد انتقل من الملامح الخارجية إلى الهندسة الكامنة في الداخل… أي كان قصدها عملية إعادة كاملة للتركيب من الباطن إلى الظاهر). فعلاقة المؤلف بما يكتب ليست علاقة تلاش وانتهاء، بل علاقة استمرار ونمو وانفتاح للإضافة والحذف والهدم، فالكاتب لا يغادر موضوع قصصه، بل يقاربه بشكل جديد في كل مرة، ففي عودته لمعاينة فضاءات ورموز قصصه مثل الدوائر والفرجار والمثلث، يدرك أنها في حركة دائمة، لتلبس جديد وإدراك مغاير.
ما يقوم به الكاتب في قصة (يد موزارت) –بوصفها ميتاسرد لقصة غائبة نشرت تحت اسم العين المتوحّدة- هو محاولات التفسير، وفكّ للترابط والمخيلة التي جمعت من خلال التداخل والتشابه بين أشياء بعيدة داخل نسق واحد. يؤيد ذلك قول السارد في تفسيره للمشابهة بين هيكل وبنية قصته وكنيسة وكاتدرائية رايمز الفرنسية في قوله (هل أنني عندما دخلت كاتدرائية رايمز في ذلك الوقت خطرت في مخيلتي كتابة قصة تشبهها، أم أننا نصنع أحيانا مع أنفسنا إجابات عن أسئلة لم نسمعها يوما أم أنها لم تتجسّد بعد).
فالكتابة القصصية المنفتحة على الميتاسرد هي نقطة انطلاق أولى، فمشابهة القصة لبناء الكاتدرائية (رايمز) ذات البناء القوطي، وارتباطها بالمحفل أو جسر الشيطان، تعيد السارد إلى مقولة مايكل أنجلو إذ إن على المرء أن ينتظر حتى تأتيه الفكرة التي تلائم شكل الحجر، وأن يكون رأى الفكرة في قطعة الحجر. فمقولة أنجلو عن العلاقة – في فن النحت- بين الفكرة والحجر وتداخلهما، شبيهة إلى حد بعيد بعلاقة المحبة الجاهزة والكاشفة عن التجاوب والتلاحم بين كل ماسونيين في ارتباطهما من خلال إشارات ورموز كاشفة عن التداخل والشبهة والمشابهة بينهما.
المزج بين الماسونية والأدب يعيدنا إلى فكرة البناء والمعرفة، ومن هنا تطل الدلالة المرتبطة (بالعين المتوحدة)، القصة الغائبة والحاضرة في آن، فهي لا تتجسد إلا من خلال الحديث عنها، لتفصح النهاية عن ارتباطها- سواء أكانت فرعونية أعلى الهرم، أو عينا صغيرة على ورقة، أو حتى عين المسيح الدجال- في كونها وسيلة للمعرفة، في إدراك الترابط والتشابهات بين الرموز والأشياء من جانب، والتكوينات الفكرية الممتدة داخل نسق ما، يقول مؤكدا على التعاظم البنيوي والهيكلي والمعماري للشخصيات للنثارات الواقعية داخل السرد (ولم يعد رسم الشخصيات خاضعا لإرادتي داخل المقهى مثلما عليه في السابق داخل القصة).
التأمل في القصة يكشف عن أن فعل الكتابة هو محور الحركة في القصة، بالإضافة إلى أن النص (العين الواحدة) ونثاره الواقعي لا يكف عن الإشارة إلى التداخل والتناظر الكاشف عن محو هذا النثار لحظة تشكله، مما يؤسس اهتماما خاصا بالكتابة في انفتاحها على المعرفي، فالعين المتوحدة تشير إلى فلسفة كتابية، وإلى فلسفة في الوعي الفردي بالعالم تجلت في قصص كثيرة من المجموعة، بوصفها عين المعرفة، ومساحة الاشتراك بين الأبدي والمتحلل والمتلاشي، وذلك من خلال الإشارة إلى تشابهات، تخرق وتحرّف مواضعة الزمن المحدد، من خلال حركة البنائيين الأحرار في لحظة موغلة في القدم لصياغة طبقة للفكرة، أو الإشارة إلى رسائل القبالة اليهودية، أو إلى فلسفة إسبينوزا، وتوجهه من خلال هذه الفلسفة بروح متمردة، تصرّ على الجمع بين المتلاشي الفاني باللانهائي، فهذه التشابهات الكتابية في التوجه نحو المعرفة شبيهة إلى حد بعيد، بالانطلاق من النثار الواقعي ومحوه من أجل كيان أكثر قداسة وقيمة ترتبط بالكتابة والفن.
المشابهة وميلاد الأفق
يعود السارد في قصة من قصصه إلى مقولة رولان بارت في كتاباته عن أن مراوغة اللغة وخديعتها يعدان جوهر الكتابة والأدب. ففي مقولة بارت وآخرين غيره تتجلى أبواب الإضافة التي ينتجها الأدب، سواء على المستوى الجزئي في تلقي الاستعارات، أو على المستوى الكلي في تلقي الأبنية والرموز. يستند الكاتب في مقاربته للفن في تشكله الأدبي، ولجزئيات تشكله إلى ثنائيات ورموز تحقق الوجود الفعلي والثنائي لتقاطب ظل فاعلا لأزمنة طويلة مثل الخيالي والواقعي.
ففي قصة (غبار النجوم) يستند الكاتب إلى أسطورة بجماليون، وإلى ظاهرة الباريدوليا، ليس لتأسيس الدلالات الجاهزة بتوظيف هذه الأسطورة أو هذه الظاهرة، وإنما لكي يحفر للأسطورة معنى جديدا آخر، فالفن في منطق القصة هو الشيء غير الحقيقي، أو غير الملموس الذي لا يمكن تكديسه بظواهر الحواس المعهودة. فالفن- مثل ظاهرة الباريدوليا الخاصة بتخيل الأشكال والهيئات غير الحقيقية لجزئيات الواقع- يخلق من جزئيات الواقع أشكالا غير واقعية، وبذلك ينفتح الفن على إدراك الترابطات الخفية بين الأشياء البعيدة، كأن يرى الإنسان صورة بشرية في جماد، أو في أجزاء من السحاب، أو في تكوينات جبلية.
ففي قصة (غبار النجوم) يتمّ التأسيس لدلالة جديدة للأسطورة في انفتاحها وارتباطها بالفن، فعشق بجماليون لجالاتيا في القصة لا يكشف عن الفارق بين الواقع والمثال، ولكن عن الهالة التي يصنعها الفن من خلال تعالقاته وارتباطاته الخفية في تشكيل الاهتمام والتوجه، فالحب ليس مرتبطا بالتمثال، ولكنه مرتبط بذلك الفائض المتعالي الذي يصنعه الفن. فالفن في منطق القصة يخرج الواقعي من حيزه الزمني والمكاني، ويحيله إلى أسطوري، ويجعله يندّ عن التصور الواقعي، فيشحنه بدلالات أكثر قيمة وحضورا، ويجليه بشكل مغاير.
إن تقسيم كلمة الباراديلويا يعطي وجودا حقيقيا لهذا التسامي في تشكيل الواقعي وهذا التجاوز الخاص بالنثار الواقعي، فالجزء الأول (بارا) السمو والارتفاع، والجزء الثاني (ديلويا) يشير إلى الواقع أو إلى الحقيقة إذا كان هناك تصور لشيء بهذا المسمّى. وفي ظل ذلك يتشكّل معنى الفن بشكل عام أو فن القصة القصيرة بشكل خاص، لأن بها في أصل نشأتها وجودا لهذا التعاظم وهذا الخروج من السردي الحكائي إلى الفكري والمعرفي، فهي تسرد حكاية أو واقعة، ولكنها لا تبقي في دلالتها على حدود هذه الواقعة، من خلال دورانها وانفتاحها معرفيا على دلالات الرموز الأكثر حضورا، بالإضافة إلى أن تصور البارديلويا يعطينا تصورا شاملا عن الفن، في كونه محاولة جادة في التقاط التداخل الكاشف عن الاقتراب بين شيئين بعيدين.
تحتل مارلين مونرو بتأسيس السارد لها في منطق القصة الأنثى التي تحمل ما فوق الواقعي، أو الهالة الأسطورية التي تتكاتف أسباب عديدة لصنعها لشخص ما، تلك الهالة التي يخلقها الفن في تمثيلات عديدة للإشارة إلى مقدرته اللافتة في صناعة المغايرة أو تحويل العادي إلى أسطوري، يقول الكاتب في قصة (غبار النجوم) ( ولكن طبيعتنا كخلق مركب وحي، قادرة على شفط مفارقات الحياة، ثم إعادتها لنا من جديد، بعد عملية أيضٍ دقيقة، وعلى هيئة أسحار غريبة، تبدو لنا أنها كائنات مخلّقة لكائنات غيرنا وليست لنا). فالفن بشكل عام- والقص القصير خاصة-ليس إلا إعمالا للخيال لإحداث وتشكيل الهالة أو المافوق، وتشكيله داخل أفق خاص.
في قصة (الرنجة الحمراء) هناك إصرار في إدراك ومقاربة الوجود من خلال الرائحة، وتلمس وجود الفن أو الفنان الذي لا يتشكل من محسوس، أو من لحم ودم، بل هو أنا مختفية لا يمكن لمسها، بالرغم من اليقين بوجوده من خلال الرائحة، مثلما يشعر الفرد العادي برائحة الرنجة التي تسود في لحظة وجودها أو في لحظة تذكرها. ولكن هذه الرائحة تؤدي أدوارا أخرى أكثر من إشعارنا بوجودها حين ترتبط بالكتابة والفن، فهي تشد الكاتب إلى الارتباط بنمط من الكتأب والمفكرين، فالفن لا يختلف عن الرائحة التي تسهم في اختيار توجه من توجهات إبداعية عديدة متاحة، لصناعة سلسلة إبداعية محمومة بصياغة توجه جديد في مقاربة الأشياء والوجود.
وفي ظل هذا التحديد يتكوّن النسب الفني بين الكتاب والمفكرين على اختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم، فالكاتب يبحث في اختياراته انطلاقا من الرائحة التي تتضوّع، فتؤدي إلى سحبه وانتمائه إليهم، ويصبح تشكل النسق الفني أو السلسلة الفنية عبارة عن تتابع روائح بنكهات مختلفة للسابقين، وفي المجموعة القصصية هناك توقف وتركيز على مجموعة من الأسماء المرتبطة بمعاينة ومقاربة وضع الإنسان في العالم، وبكيفية الإجابة عن الأسئلة المرتبطة بالوجود الفردي والوجود الجماعي، مثل فرويد وإينشتاين وكافكا وتشومسكي، فهؤلاء توحدهم مساحة الاهتمام وطريقة المقاربة بالرغم من اختلاف اللحظات الزمنية.
الفارق بين أنا الواقع، وأنا الفن المتعالي يحتاج إلى عين راصدة ترتبط بفكرة التلصص على الوجود، ومن هنا يتمّ الاشتغال على ثنائية الأديب والجاسوس، ويستحضر النص القصصي الكاتبين أيان فليمينج وجون لو كارييه، ويحيل إلى شخصية روائية هي شخصية جورج سمايلي ضابط المخابرات البريطاني التي اخترعها وشكلها كارييه. تنبع قيمة هذا الربط بين الأديب والجاسوس في قدرته- أي فكرة الجاسوسية- في خلق انخراط مغاير وخاص، فالأديب في ظل هذا الربط أشبه بالعميل المزدوج، فالسارد- لإسدال نوع من المشابهة- يشير إلى الانتساب إلى الموساد بهولندا كعميل سري، كما يكمل – على حد تعبير النص القصصي- المسلم دينه بالزواج، للإشارة إلى واقع عام أولي، ثم يشير إلى الانتساب من أجل الإغواءات الأدبية إلى جهاز المخابرات الهولندية كمخبر سري.
فتدشين الثنائية في وظيفة المخبر السري تدشين لمجال الانخراط الأدبي بعيدا عن التصنيفات الأيديولوجية التي ليس لها حضور فعّال، فالمسألة وثيقة الصلة بالكتابة، ووثيق الصلة بالعملية الإبداعية نفسها، وما تخلقه من تأملات وتكوينات داخلية شديدة الخصوصية في الرؤية ومقاربة الوجود والعالم، بوصف ذلك دورة تناصية مع نماذج سابقة مثل فيلمينج وجون لو كارييه في التشابه مع السارد، وصناعة نماج فنية في التشابه والانطلاق من الشخصيات المؤسسة مثل جورج سمايلي في كتابات سابقة.
الكتابة هنا هي فن الإغواء في توليد أو استيلاد رائحة تسحب الكاتب نحو توجه ما، وتبدأ المخيلة نتيجة لذلك في صناعة العالم بجزئياته التي تتشكل أثيرا محيطا يتحرك حتى يصطدم بشخصياته ونماذجه الفكرية التي يكوّنها انطلاقا من من طبيعة الإغواء وأطره الفكرية، مثل الشخص الهارب من الهولوكست، ثم القيام بفعل يساعد نمو هذا الإطار الفكري من خلال الزيارات الميدانية لمتحف اليهود التاريخي في الحي اليهودي القديم بأمستردام، ومتحف الهولوكست الوطني، يتآزر كل ذلك مع مطالعة العلامات والرموز في كل مكان مثل نجمة داوود.
كتابة القصة وفق هذا المنطق أقرب إلى محاولة الإمساك بالشغف، من خلال كل ما سبق بذهن جاسوس لا يكفّ عن التلصص في صناعة عالمه الخاص. فيصبح الكاتب أديبا وعميلا سريا، فالعميل السري من خلال عدسته المفتوحة وتلصصه في تكديس الأشياء لفعل الكتابة، يصنع مشابهة ذات خصوصية مع الأديب، فالكتابة الفنية شبيهة بكتابة التقرير السري، تقول القصة (بينما وراء الوجه الآخر ثمة عشرات من أشرطة نانو المسجلة، تدور وتسجل صامتة في الخفاء، وهي مكبوتة الأنفاس).
من خلال هذا الفعل التلصصي القائم على المعايشة أو القراءة يمكن معاينة تولد الأفق الجديد من الآفاق القديمة في ظل اصطفاء حالة مقاربة شديدة الخصوصية ترتبط بوضع الإنسان في العالم، وفي حضور مفارقات زمنية لكل طبقة من الطبقات الآنية أو الماضية، فاستحضار (إيما) في رواية مدام بوفاري، أو إسبينوزا في قصة (رداء كهنوتي مزيّن بالببغاوات) يجعلنا أمام نموذجين كاشفين عن اختيار النسق المشابه، وعن تولد الأفق أو الطبقة المعرفية في كل سياق حضاري خاص للفكرة وتوالدها المستمر، ففلسفة إسبينوزا تقوم في الأساس على التفكير في كينونة الكائنات والعالم، وصهرها في كينونة كاشفة عن التوحد، ومن ثم يتم الاتكاء على طبقات أخرى مثل طبقة رسائل القبالة اليهودية، وطبقة النص القصصي الآني الذي يدور الحديث في النص الميتاسرد الخاص به.
الكتابة هي فن المتخيل الذي يحقق اتصالا مع تجليات سابقة أما تجاوبا أو تباينا، من خلال الحوار مع هذه الشخصيات في وجودها الممتد، لأن هذه الشخصيات تظل فاعلة باستمرارها ودورانها في أدمغتنا في مقارباتنا للحياة، وتؤثر بالضرورة على اختياراتنا في اللحظات الحاسمة. ومن هنا يتمّ تنضيد مكانة للكاتب العظيم الذي يؤسس بنماذجه حركة حية في حياة البشر، وردود أفعالهم. وتظل (إيما) بطلة مدام بوفاري نموذجا لافتا في هذا الإطار، لأنها بسلوكها الواقعي في إيمانها بما هو خيالي، وابتعادها عن المؤسس العرفي والأخلاقي، أزالت الخط الفاصل بين الواقعي والخيالي، وتولد لديها يقين كامل بذوبان الفواصل بين هذين القسيمين، فتحوّلت حياتها المملة إلى واقع مملوء باللذة والمعاني مثل حياة الأبطال الخياليين الرومانسيين، فبدت- ولم يظهر ذلك في تشكيل فلوبير لها مما يؤسس لخروج طبقة جديدة- امرأة تريد الشيء ونقيضه في الآن ذاته، والفن- أيا كان نوعه- أشبه بالطبقات المتراكمة التي تتوالد وتتداخل، لتبني توالدها وتداخلها في حوارها المتدّ، وحركتهاغير المنتهية مع طبقة أو طبقات مؤسسة سابقة، فالكتابة – على حد تعبير قصة دعابة الكاتب-كالذرة في ميكانيكا الكم، فحين يكون لها موقع تختفي حركتها، وحين يكون لها حركة يختفي موقعها.