م. ميشيل كلاغاصي
20/7/2023
لم يشهد تاريخ الصراعات الدولية تشابكاً وتعقيداً على غرار ما يحدث اليوم, فقد كانت هناك دائماً أوقات وضرورات تتقدم فيها الحروب العسكرية أو تتأخر عن العمل السياسي والدبلوماسي, كأسباب أو كنتائج, لكن ما يحصل اليوم هو مزجٌ كبيرٌ بينهما وبدون حدودٍ فاصلة, رُفع فيها سقف التحديات وتضاعفت سرعة تغيير المعادلات السياسية والميدانية , وفتح المجال أمام جنون الأهداف والغايات , وباتت الحروب تدميرية بالمطلق وساحات لكسر العظام , وبدأت لغة ومفردات الحرب العالمية الثالثة تتصاعد في خطابات الدول والساسة والعسكريين ووسائل الإعلام.
فالمشهد الدولي الحالي رصد مؤخراً إنعقاد قمة الناتو وعديد القمم والقاءات السياسية الثنائية, على وقع الحروب الساخنة الدائرة حالياً , والتحركات العسكرية التصعيدية الإستعدادية الإستفزازية , والمناورات والتجارب الصاروخية , رسائلٌ في كافة الإتجاهات , وسط غياب الرؤى والتوقعات النهائية , وما بين الحربين الساخنة واستمرار الحرب الباردة , يتساءل البشر عن حياتهم ومصيرهم ومستقبل كوكبهم.
إن تمسك الولايات المتحدة بالنظام العالمي الأحادي, وبغطرستها وهيمنتها على العالم , يدفعانها لرفض العالم متعدد الأقطاب , ويحتمان عليها مواجهة أعدائها وإضعافهم , والتفرد بالصين , بعدما حددتها عدواً رئيسياً وهدفاً مباشراً , وفرضته إعترافاً على دول الناتو في البيان الختامي لقمة فيلينوس , وبأن الصين تشكل تهديداً لحلف الناتو مجتمعاً.
وخلال قمة الناتو في فيلنيوس, حازت ملفات انضمام السويد وأكرانيا إلى الناتو وتركيا إلى الإتحاد الأوروبي, على اهتمامٍ كبير, وانتظر العالم بشغف وحذر ما ستؤول إليه قرارات القمة حول تلك الملفات , خصوصاً ما يتعلق بأوكرانيا والحرب التي تخوضها وهي المدعومةً من الولايات المتحدة وحلف الناتو والإتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأوروبية الغربية والشرقية ودول البلقان وغيرها من دول العالم, خصوصاً وأن التصعيد العسكري والإشتباك السياسي والإعلامي بلغ ذروة ما كان من الصعب توقعه قبل شباط 2022.
فما أظهرته الولايات المتحدة منذ عام ونصف حتى اليوم , واعتمادها على حروب الوكالة, وسط احتمالية إندلاع الحرب العالمية الثالثة , ما لم تكن لتبنيه على فكرة المواجهة العسكرية الأمريكية المباشرة مع روسيا أو الصين أو كليهما معاً , وبات واضحاً أنها تبحث عن مواجهةٍ عالمية بين فريقين وكتلتين , تعمل من خلالها على قيادة فريقها الموسع , الذي يتخطى أعضاء الناتو الحاليين ليشمل من هم بحكمهم أيضاً , كأستراليا ونيوزيلندا واليابان وجمهورية كوريا الجنوبية , وبعض الدول المحتملة أيضاً كالهند وفيتنام والفلبين وإندونيسيا ودول أخرى والكيان الإسرائيلي , على امتداد مناطق الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ , الذين تسعى واشنطن لكسر حياد بعضهم وأرجحة وتذبذب البعض الاّخر , وكسبهم من بوابة العداء لروسيا أو لأحد دول كتلتها وحلفائها كالصين وإيران وسورية وأفغانستان وباكستان ودول منطقة أوراسيا والقوقاز.
كذلك شكل ملفي إنضمام السويد وفنلندا دافعاً للرئيس زيلينسكي وحكومة كييف , لتعليق اّمالها على تسريع انضمامها إلى الناتو لكونه بإعتقادها قادراً على حسم المعركة الميدانية لصالحها , وجعل النصر الأوكراني أمراً ممكناً, وتجنبيها في الوقت ذاته الهزيمة الحتمية بالتوازي مع فشل “الهجوم المضاد”.
لكن قصور النظر لدى زيلينسكي جعله يخاطب المجتمعين في قمة فيلينوس بإستخفاف وعجرفة ووقاحة , وأخذ يتصرف كما لو أن العالم الغربي كله مدين له , وتجرأ على إهانة وزير الدفاع البريطاني بن والاس , ولم يقرأ معاناة الدول الغربية بعد عام ونصف من دعم أوكرانيا , وشح الأسلحة في مخازنهم , وتضرر إقتصادياتهم , وأزمة الطاقة التي تعدهم بشتاء كارثي للمرة الثانية , ولم يقرأ كذلك رفض واشنطن إنضمام أوكرانيا بذريعة أنها تخوض حرباً ولا تتمتع بالإستقلال الكامل , ولم يراع أهمية المحادثات السرية وغير الرسمية بين الولايات المتحدة وروسيا , وبأنه قد يجد نفسه مجبراً على توقيع صكوك الإستسلام , والدخول في مفاوضات أشبه ما تكون نوعاً من مقايضة بعض الأرض مقابل السلام.
إن سعادة بايدن أثناء القمة بزيادة عدد دول الناتو إلى 32 , تخطت حقيقة الأمر، ولم تخرج القمة واللقاءات الثنائية, عما كان متوقعاً من قبلها , ولم يصدر قرار صريح يعلن إنضمام أوكرانيا إلى الناتو , وكذلك ما يؤكد قبول الإتحاد الأوروبي عضوية تركيا .. ومع ذلك كانت بعض دول الناتو , وخصوصاً دول أوروبا الشرقية , تعلق اّمالها على نجاح القمة بإحداث تغييرٍ في الوضع الميداني الأوكراني , في وقتٍ يغيب عن أذهانها أن الناتو لا يخطط للتضحية بقواته لصالح دولةٍ كأوكرانيا وحرباً بالوكالة , وأنه يعتمد كلياً على الدول من غير أعضائه للمحافظة على زخم ووتيرة العدوان على روسيا , لذلك اتجه نحو تسليح أوكرانيا , ووضع رهانه وتركيزه على جورجيا ومولدوفا على أمل إضافة وافدين جدد , جاهزين وعلى أهبة الإستعداد لقتال روسيا.
صحيح أن دول الكتلة الأمريكية متساوون لجهة طاعة الولايات المتحدة وعدم الخروج عن قيادتها وهيمنتها , لكنهم منقسمون ضمنياً فيما بينهم ما بين تحالف الراغبين ببدء المفاوضات ووقف الحرب , وما بين تحالف الراغبين بإستمرارها كبولندا ودول البلطيق , وقد تكون بولندا كوريث “لإمبراطورية” النمسا وحلف وارسو , هي أحد أهم الحاقدين والباحثين عن الإنتقام من روسيا الإتحادية كوريثٍ للاتحاد السوفيتي , وتبحث عما هو أبعد من دعم أوكرانيا , وسط إحتمالية إقحام قواتها العسكرية في الصراع المباشر, خصوصاً وأن قمة فيلينوس لم تقدم إلى أوكرانيا ومن هم ورائها شيئاً مهماً ومنتظراً .
تخطىء السلطات البولندية ودول البلطيق وكل من يبحث عن طريقةٍ لدخول الحرب المباشرة إلى جانب القوات الأوكرانية , وبأنه سيلقون الدعم والمؤازرة والحماية من قبل الناتو , ولا بد من التعقل وتقييم النتائج الكارثية جراء دعم الناتو لأوكرانيا , ومدى احترامه لإتفاقية الدفاع الجماعي.
لا بد للدول والرؤوس الحامية فيها , من معرفة أن دعم الناتو للتدخل العسكري المباشر , يعني شيئاً واحداً فقط , ألا وهو اندلاع الحرب العالمية الثالثة في الواقع ، فإن دعم التدخل المباشر لحلف الناتو يدعم بدء الحرب العالمية الثالثة , التي ستشهد استخدام الأسلحة النووية حتماً , وما يعنيه من قتلٍ للبشر وتدميرٍ للأرض , لكن ما تثبته الوقائع حتى الاّن , هو قبول واشنطن برفع مستوى التصعيد إلى حدود قتل البشر فقط , من خلال تزويد كييف بالذخائر والقنابل العنقودية المحرمة دولياً , وبذلك وضعت واشنطن خطاً يفصلها عن بلوغ السطر الأخير, قد تفضي فيه الاتصالات السرية مع موسكو , بالتوقف عند هذا الحد , وقبولها والناتو بهزيمة أوكرانيا , وبالتفاوض الكبير مع جميع الأطراف على واقع جيوسياسي جديد , يضمن انتقال النظام العالمي بهدوء نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب لن تكون فيه واشنطن شرطياً ولا دولةً منبوذة ولا مهيمنة , بل ستكون على قدر أهميتها ومكانتها , وهذا لن يضيرها , بل سيدفعها نحو ترميم نفسها , ومعالجة أزماتها , ويحافظ على فرصتها في المنافسة الحرة المتكافئة والعادلة .
كان لا بد لواشنطن من إدارك أن توسيع الناتو شرقاً , بأنه فكرةٌ غبية , هددت وجودها في عقر دارها , وفي أوروبا , واّسيا الوسطى , وحتى في سورية , وغير مكان , ويمكن له أن يدفعها نحو الحرب العالمية , ومواجهة الكتلة الروسية وقدراتها العسكرية , بدءاً مما يخبئه بوتين وصولاً إلى ما يعلنه كيم جون أون.
وعليه … سعت واشنطن مؤخراً , عبر زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين , إلى تخفيف التوتر مع بكين , لكونها أدركت مدى حاجتها إلى عدوها اللدود الرئيس شي جين بينغ , للعب دور الوساطة , وهو الدور الذي نجحت الصين فيه غير مرة , وأثبتت أنها وروسيا الإتحادية تشكلان القوى العظمى العاقلة , خصوصاً مع تصريح الرئيس بوتين بأنه لم ينكر على أوكرانيا “حقها في ضمان أمنها وفي اختيار كيفية تحقيق هدفها ، لكن دون أن يشكل ذلك تهديداً لدولة أخرى”.
م. ميشيل كلاغاصي
20/7/2023