تقديم وقراءة د آسيا يوسف
أغنيةٌ لحائط المبكى
قصيدة اختارها الشاعر الدكتور جليل البيضاني عنواناً لمجموعته الصادرة حديثاً و لأن العنوان ملفتٌ لدرجة الدهشة أحببت أن أشارككم قراءة تحليلية لمعاني القصيدة التي قال فيها:
و انحنى الظهرُ
و ملَّتني خُطا المنفى
و أضناني الظلامْ
و حروفي لَبستْ ثوبَ الحِدادْ
و الأمانيُّ سرابٌ
مُترعاتٌ بالسوادْ
أينَ نمضي؟
دربنا شوكٌ
و ملَّتنا الرؤى….
و المفازاتُ قِتادْ
ضاعَ فيها الطيبون
و رجالُ العزِّ تحت المقصلة
و تخلّتْ عن حكاياها الجيادْ
سرقوا منها الصهيلْ
شامخاتٌ دون رأسٍ/في بساتيني النخيلْ
و بلادي /كلُّ ما فيها حزينْ
و دموعٌ /و ثكالى / و قبورٌ للعِبادْ
و مِنَ المضحكِ أن تُدعى بلادْ
بُلَهاءٌ نحنُ /نستجدي حكايا سالِفة
و بطولاتٍ لعنتر
و خُراجَ الغيمِ في عهدِ الرشيدْ
إنما نحن عبيدْ ….
قادنا الماضي لذُلٍّ و قيودْ
أيُّ حُكّامٍ يقودون خطانا؟
نحنُ أبوابُ يهودْ
كلنا الآن نغني
حائط المبكى أبونا من جديد
أيُّ عُهرٍ /ذلك اليدخلُ في كلِّ زوايا العربية
وحدَها/ليست فلسطين القضية
إنَّما الشّعبُ القضية
من محيطٍ لخليجٍ……
نلعبُ الدّورَ لأمريكا
و أسدلنا ستار المسرحية.
………………………..
عنوانٌ يضعنا في مواجهة الأسئلة فيختزلُ تاريخاً طويلاًمن نضال العرب في مناهضة الكيان الصه…يوني
ويدهش القارئ لتسمية الشاعر الحائط المبكى بدلاً من البراق ..و الثابت تاريخاً إن العرب من أسموه المبكى لأن الي..هود يبكون قبالته لأنه في التلمود باقٍ من معبد سليمان بينما يسميه ال…يهو..د (الحائط الغربي) و يعتقدون أن من بناه ملك فلسطين في العهد الروماني (هيردوس الكبير 37ق.م) حول الهيكل الثاني الذي بناه (زوربابل) بعد عودته مع اليهود من السبي البابلي…
وجاءت تسمية حائط البراق نسبةً للدابة التي ركبها النبي(ص) عند إسرائه ليلاً من مكة إلى المسجد الأقصى حيث ربط البراق في حلقةٍ على هذا الحائط و دخل إلى المسجد حيث صلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السماوات العلا
ومن يقرأ القصيدة يدرك أن الشاعر كتبها شجباً لهرولة الحكام العرب للتطبيع مع دولة الكيان و كأنّ الحكامَ ينشدون و يغنون بأصواتهم النشاز لدويلة ما كانت ستقوم لو اتّحدوا صفاً واحداً تجمعهم العروبة و الدين و اللغة و المصير ….
*الحزن تمكّن من الشّاعر فيهيمن الجو السوداوي على أجواء القصيدة فيبدأ قصيدته بقوله:
و انحنى الظهر في كناية عن تقدمه في العمر و تأثير الأحداث في استقامة قامته …
و ملّتني خُطا المنفى في استعارة مكنية فقد جعل المنفى خُطا إنسان يمشي و لكن الصورة الشعرية هنا تضمنية في صورتين فقد ملته خُطا المنفى مما يدل على كثرة أسفاره التي عدّها رغماً عنه لأنه اعتبر الغربة منفى قسري
هرباً مما يحدث في وطنه و يسترسل:
و أضناني الظلام:أيّ ظلامٍ أيها الشاعر؟
إنّه صعوبات الحياة و الظلم نتيجة الحكومات المتعاقبة على العراق فهم أداة في أيدي الغرب و تأصل الحزن في أعماق نفسه فارتدت حروفه السواد في قوله:
و حروفي لبست ثوبَ الحداد …فالوطن لايفتئ يقدم الشهداء كقرابين للحرية و تستمر الأحزان فيسود التأثير النفسي مناخ اللغة و الأحزان مستمرة بينما فقد الرجاء و الأمل بالتغيير كما نقرأ: (والأمانيّ سرابٌ) في تشبيهٍ بليغٍ فقد تحولت الأمنيات إلى محض سراب الذي هو ظاهرة تحدث في الصحراء إذ نرى ماءً عن بُعد، و بَعد الوصول إليه نكتشف إنه وهم يتلاشى عند الاقتراب منه.( مترعاتٌ بالسواد):
أحسن المبدع توظيف اللون الأسود كدلالة على التشاؤم و الحزن كما اعتدنا ارتداء الأسود في الأحزان و عند الفقد .
ثم يطرق بوابات الأسئلة :أين نمضي؟
فالطرق فقدت موئلها و هدفها …و كل الأمكنة فقدت الأمان …(دربنا شوكٌ) في تشبيه بليغ كدلالة على الصعوبات و وعرة الدروب و الدرب أصغر من الطريق مما يدل على ضيق مسالك الشاعر …كناية عن الصعاب
(و ملّتنا الرؤى) نلاحظ الضمير الجمعي في ملّتنا بعد أن خصص بضمير المتكلم في المقدمة فهو ينطلق من الخاصّ إلى العام تعميماً للقضية .
و شخّص الرؤى فجعل منها إنسان يملّنا في استعارة مكنية و مفرد الرؤى رؤيا و هي الرؤيا المستقبلية التي تشكل الطموحات و الأماني دلالة على غموض المستقبل المجهول.
(و المفازات قتاد) و مفرد مفازات مفازة وقد سمى العرب الصحراء المهلكة بالمفازة كثنائية ضديّة تفاؤلاً بالنجاة منها …إلا إنها قتاد و القتاد أشواك صحراوية مؤلمة و سامة.
و قد اتسعت الصحارى لدرجة إن الطيبين ضلوا فيها طريقهم (ضاع فيها الطيبون) و(رجال العزّ تحت المقصلة) كناية على إقصاء المفكرين و الأشراف و العلماء بإعدامهم و المقصلة أداة الإعدام في الثورة الفرنسية
(و تخلت عن حكاياها الجياد):و يذكر الشاعر بأمجاد الماضي في ارتجاعٍ لماضي الأمة العربية و تاريخها الطويل بالنضال و الانتصارات …فقد جعل الجياد التي تدل على الأصالة تتخلى عن تاريخ الانتصارات التي أضحت حكايات في استعارةٍ مكنية فالتخلي من صفات الإنسان لكنها مرغمةٌ (سرقوا منها الصهيل) في مقاربةٍ حسيّة بين الملموس المسروق و المحسوس الصهيل فالمسروق هو صوت الخيول التي عقد الله عزّ وجل بنواصيها الخير إلى يوم القيامة …و يكثر الصهيل عند احتدام المعارك … دليل عدم الفاعلية و توقف العرب عن توقف معارك العزة و الكرامة.و يسترسل:(شامخاتٌ دون رأس/في بساتيني النخيل ) في إشارة لبشاعة ما فعله الاحتلال الأمريكي حيث أباد مزارع النخيل برشها بمواد سامة فماتت واقفة دون رؤوس …مما يؤكد انعدام إنسانية المحتل الذي يبيد الأرض و ما عليها.
و يوصّف الحالة الواقعية التي يعيشها وطنه
(وبلادي/كل ما فيها حزين/و دموع/و ثكالى و قبورٌ للعباد) فالمعاناة مستمرة فقد وضع الاحتلال أيديه الآثمة على مقدرات البلاد من نفط و معادن و غيرها
و كثرت القرابين و الشهداء و الأمهات الحزينات و القبور المنتشرة حيث ضاقت الأرض بموتاها …و يفسر الواقع الراهن والمهزلة إذ يقول:(ومن المضحك أن تدعى بلاد )في كوميديا سوداء يملؤه الأسف و الأسى لما أضحى عليه العراق العظيم
و يؤكد حكمه و أسفه بقوله:بُلهاءٌ نحنُ
/نستجدي حكايا سالفة
فهو يؤكد إن من الغباء العيش على أمجاد الماضي و البطولات السالفة كبطولات عنترة و الحروب العبثية الغبية و عنتريات العرب ضدّ بعضهم البعض…و يقيّم الماضي كشاهدٍ بين كلماته إذا يستشهد بقول هارون الرشيد للغيمة:”أمطري حيث شئتِ فإنّ خراجك عائدٌ إلي ” كناية عن اتساع ملكه أيام ازدهار الخلافة العباسية فأينما أمطرت الغيمة سيعود خيرها إلى خزائنه
و يستخدم أسلوب الكف في قوله:(إنّما نحن عبيد) في أسلوبٍ توكيدي لا مجال للجدل فيه ويفسر توكيده بقوله:
(قادنا الماضي لذلٍّ و قيود) فقد تخلى الماضي عن السادة و القادة بعدما رضخوا للذل و العبودية من خلال حكامهم (أي حكامٍ يقودون خطانا/نحن أبواب اليهود)
و أغلب الحكام صافحوا و نسوا القضية و دماء الشهداء طبعوا مع الكيان فغدا الجميع بمثابة مدخل للصه.. يونية
(كلنا الآن نغني) و هي الجملة المفتاحية للقصيدة الكل ينشدون تحت قبضة بني صهيون، (حائط المبكى أبونا من جديد) فالتطبيع لم يترك مجالاً لنصنع أسطورتنا الجديدة فنغني لحائط أسميناه المبكى نسبةً لبكاء بني إسرا.. ئيل معبدهم التليد…. و يستشيط الشاعر غضباً:أيّ عهرٍ
ذلك اليدخل في كل زوايا العربية… فالعهر السياسي جاوز كل حدّ.. و يتابع موضحاً (وحدها… ليست فلسطين القضية) الآن نسي العرب القضية و القبلة و الأقصى ليغنوا لمن احتل و اغتصب الأرض…. إنما الشعب القضية:حوّل الشاعر القضية الفلسطينية إلى قضية تخصّ كلّ الشّعوب العربية دون حكامهم و عممها من محيطٍ لخليج .
فما نحن إلا ممثلون في مسرحية الحياة فنحن لعبة خيوطها بيد امريكا تحركها كيفما أردت فنلعب الأدوار المطلوبة منا ثم يسدل ستار الحياة بالموت …….