رحل رجل السياسة الخارجية الاشهر كيسنجر بعد قرن من الزمن قضاه عبر مجموعة تحولات ومحطات مهمة، شكلت ابعاد شخصيته من جهة، ورسمت خارطة احداث معظمها دموية او محفوفة بالحروب من جهة اخرى، وتعد تركته (العلمية والعملية) من اهم ما ورثته ادبيات السياسة بغض النظر عن الجانب
القيمي والاخلاقي فيها.
روافد وخصوصيات شكلت كيسنجر الذي نعرف، ومنحته الفرص التي ساهمت بزخم كبير لمساعدته وتمكينه مما وصل إليه ويمكن الاشارة الى بعضها بالاتي:
١- اصوله اليهودية وجذوره الالمانية.
٢- خدمته في الجيش وخاصة في عالم الاستخبارات والادوار المهمة التي انيطت به رغم صغر رتبته العسكرية.
٣- المحطات التي استقبلته كهارب من ألمانيا هتلر بدءاً من لندن ونيويورك وواشنطن.
٤- الظروف والاحداث العالمية المهمة التي زامنها ومنها الحرب العالمية الثانية وما بعدها من الحرب الباردة وصراع الشيوعية وحرب فيتنام… الخ، وهي احداث اثرت في مجمل الخارطة العالمية.
٥- التعليم المتميز الذي تلقاه، وهو تعليم متنوع ختمه في البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من جامعة هارفارد، وكان بحث تخرجه في البكالوريوس مكون من (٤٠٠) صفحة، اي اكبر من اطروحة دكتوراه.
٦- الخصائص الذاتية له واهمها الذكاء الحاد فضلا عن اجادته لاكثر من لغة بتمكن عال وفي مقدمتها الالمانية والانجليزية.
٧- خدمته في مواقع سياسية ووظيفية متميزة (مستشار الامن القومي ووزير الخارجية الامريكي) وخلال فترات رئاسية تعد الاهم في تاريخ الولايات المتحدة.
٨- يعد القرنان الماضي والجاري من اهم الحقب الزمنية التي شهدت تحولات علمية وتكنولوجية وسياسية وعسكرية وامنية واقتصادية وحتى ثقافية، الاهم في تاريخ البشرية.
ان هذه العوامل مجتمعة وروافد اخرى ساهمت بشكل منتظم في صناعة الرجل الاشكالية هنري كيسنجر، والذي يعد مضربا للمثل في البعدين الايجابي والسلبي، فمن يؤمن او ينسجم مع نتاج تاريخه السياسي ونشاطه الدبلوماسي وما قام به من وساطات وقضايا خلال تاريخه الوظيفي والعلمي، يراه مثالا متميزا واوحديا، ومن يراها مسؤولا عن مجازر وحروب ودماء، فضلا عن منظر ومفكر لوجهات نظر سياسية كانت مظلة للكثير من البلاء الذي اصاب العالم، يضربه مثلا للمكر والدهاء وسوء السريرة، وفي كلا الحالتين يبقى تاريخ كيسنجر وتراثه العلمي والعملي مادة مهمة وثرية تستحق الدراسة والتأمل والاستفادة منها.
أكرر بغض النظر عن موقفي من سيرة حياة كيسنجر والادوار التي لعبها، وما قيل عن مواقفه في السر، فضلا عن طبيعة الفكر الذي اسس له في مجال العلاقات الخارجية ومفهوم الشرعية وقضايا كثيرة اخرى، فإن الجانبين في حياته تمثلان حالة مهمة تشير الى نموذج متميز وهما:
١- الدور الوظيفي القائم على اساس المؤهلات العلمية العالية، فقد مارس وظيفته كمستشار للامن القومي وكوزير للخارجية على خلفية علمية ثرية، قام من خلالها ببناء الجانب النظري الرصين عبر دراسته في اهم جامعة عالمية فضلا عن طبيعة الجهد العلمي ونوع الموضوعات التي اختارها في بحوثه العلمية، وهي قضية نكاد نفقدها تدريجيا في الكثير ممن يمارسون الوظيفة ويتسنمون المناصب العليا، فاليوم يجلس في سدة السلطة اغبياء وتافهون واشخاص لم يكملوا اي مؤهل علمي مناسب للوظيفة التي يمارسونها خاصة في المناصب الوظيفية العليا.
٢- الجانب العلمي والمتمثل بشخصيته كمفكر وباحث في شؤون السياسة الخارجية والازمات والامن والاستراتيجيات، إذ تمثل كتبه ومقالاته مرجعيات مهمة يعود إليها الباحثون وطلبة الدراسات العليا، وتعد الدراسات التي تستخدم كتبه ونتاجه العلمي كمصدر لها من الدراسات الرصينة، وقد بقي كيسنجر منخرطا في الحقل العلمي رغم موقعه السياسي والتزاماته وتاريخه الحافل، سواء من خلال الكتابة والمقالات المميزة التي ينتجها في كل فترة او من خلال محاضراته ومقابلاته، وظل على هذا الحال الى آخر ايامه حياته، وهي حالة نادرة في الوسط العلمي، والذي تغني نظرة واحدة لمعظم شخوصه ومؤسساته في اوقاتنا الحاضرة لنعرف حجم التدني والبساطة والنتاج الهزيل لاسماء وارقام لها طنين، واما الذين يذهبون للسلطة والمسؤولية، فيندر انهم يتذكرون اي شيء من العلم والدراسة والتأليف.
انطوت ورقة كيسنجر الانسان بعد ان عاش في الحياة مائة سنة، ولكن تركته العملية والعلمية مستمرة التأثير في عالمنا من جهات مختلفة، وهو ما يتطلب تجاوزنا للجانب الشخصي في حياته، والنظر فيما بقي من اثره العلمي والعملي في عالم وإن بدى حديثا لكنه كثيرا ما يستمد حيله وألاعيبه من تراث قديم مجرب.