______
اكتبْ بحبرك فوق ارغفة اليتامى ماتشاء
من الشقاءْ
ضاقتْ على سِعَةٍ بنا حُجبُ السماءْ
في القاع يحتارون كيفَ اتيتَ؟
كيفَ حللتَ فوقَ خيامنا
أَوَ ما ترىَ…
عُجِنَ الرصاصُ بخبزِنا، والموتُ ملحُ طعامِنا
والنائباتُ تصولْ تفترشُ العراءْ
تسريْ الحرائقُ في هشيمِ العمرْ مُغْبَرَّاً ويأتيْ الفجرُ
لاصوت المؤذنِ يوقظُ اﻷموات
واﻷحياءُ كاﻷمواتِ تفطرُ بالهواءْ
صوت المؤذن يرطنْ التكبيرُ… يبتلعُ النداءْ
فيظلُ جذر السنديانِ بلا وضوءْ
والعصرُ مُنْكَفِئ
يلوكُ الذكرَ في أفواههمْ ويعودُ يبصقهُ
بناصيةِ الخواءْ
في موطني
الحارثونَ ..الغافلونْ…الواقفونَ هناكْ
يجترونَ صوتَ الريحِ يقتاتونْ أدعيةَ القضاءْ
الباسطون أكفهم للعيد لاثوب …
ويأتي عارياً
فيخزق الاثواب عن أبدانهم
خلعاً لأضرحة الولاة (الأولياء)
العابرون على جراح الأرض..يمتصون
حتى الملح من دمع يقدده الشقاء
ياأيها الماضون تحملهم عظام الوهم
تمطرهم سماء الغيب أدعية هباء
طبع الشموع تعاقرون النار والأنوار
يسرقها البغاة الأدعياء
فابقوا نيام على صليب الجرح
تفترشون جلد الوقت تجترون أوهاما تعشعش كالوباء
ودعوا الرعاعَ تسوسُ خبزَ قضائِكُمْـ
أوَتمطرُ القمحَ السماء…
…..ريم البياتي.
البنية الفكرية في ملح على حجب السماء :
………………………………………………………
نبدأ من العتبة الأولى للقصيدة وهي العنوان المدهش المباغت
ملح بصيغة التنكير دلالة على الغموض و هذا الملح ليس بحري و لا صخري و إنما على حجب السماء
و كأن الملح تجمع ليحجب الرؤى و الغيم.. أو ربّما ليحجب الدعاء
فالملح شره للماء كمادة نستخدمها فهو يرتشف الغيم.. لكن ملح الشاعرة كناية عن صعوبات تمنع وصول الأدعية إلى الخالق فاستخدمت الحجب بدل الغيم في تناص خفي مع القرآن الكريم
و بنينا فوقها سبعاً شداداً.. (النبأ)
بفعل أمر تبدأ القصيدة خطابها فتطلب إلى الخالق أو المتلقي أو الشاعر أن يكتب ليس على الأوراق أو القرطاس و إنما على أرغفة اليتامى… ماذا يكتب ( الشقاء) و من هنا نرى توجه الشاعرة فالشقاء قدر مكتوب و لكن على الارغفة و استخدمت صيغة جمع القلة ( أرغفة) و ليس (رعف أو رغائف) مما يدل على الكثرة.. فرزق اليتامى شحيح فهو بعض أرغفة وقد قيض لهم الشقاء و التعاسة… و تسترسل ( ضاقت على سعة بنا حُجب السماء)
فرزق الله واسع و الخيرات كثيرة (سعة) وقد ضاقت في ضآلة و قلة الوفرة فالغيم يمنح الخيرات و لكن ( الحجب تمنع الزرق) والحجب هنا كما أقرأ ما هي إلا كثرة الذنوب التي تمنع خيرات الله. و لا ريّب أن البشر الذين وصلوا إلى الدرك الأسفل من الحياة أصابتهم الحيرة مما أحاط بهم….و تترك المبدعة الأسئلة معلقة.. فهم لا يفهمون كيف تتحول غيوم الرزق إلى كوراث و كيف أضحى الخبز معجوناً بالعنف
بينما اعتادوا الموت وغدا أساسياً و معتاداً كالملح في الطعام…
و المصائب كثرت فأضحت تصول وتجول في استعارة مكنية و كأنها كائن حي أو وحش يسيطر على الأمكنة…
وتستمر المبدعة في توصيف ملهم
فجعلت الحرائق ( جمع كثرة) تسري أي تمشي ليلاً ولكنها لا تنتشر في الهشيم العشبي و إنما في هشيم العمر.. و الهشيم هو العشب الجاف القابل للاشتعال
و هذا الهشيم لشدة احتراقه غدا مغبرّاً و لكنها تشيع ضوءاً من أمل
ها قد أتى الفجر
لا صوتَ المؤذن يوقظ الأموات… المؤذن مهمته إيقاظ النيام للقيام بفريضة الصلاة و ليس الأموات و الشاعرة تقصد بالأموات الأحياء الذين ماتت ضمائرهم و أحاسيسهم فهم الموتى و ربّما هو قبس من الحديث القدسي ( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) و نكتشف ذلك من السطر الذي يليه ( الأحياء كالأموات) في تشبيه مجمل ولكن لمَ؟ لأنهم يفطرون بالهواء… دليل على قلة الخيرات أو ضيق ذات اليد
ولكن المؤذن يرطن و الرطانة دليل ثقل اللسان أو أعجميته فهو يرطن التكبير كما رأينا لدى الكثر من الدواعش الذين يقتلوا باسم الإسلام و تستطرد ( يبتلع النداء)
نداء الصلاة أم الخالق و لمَ يبتلع ابتلاع لأنه لا يقصد الصلاة و التكبير و إنما ما ينتجه عن تكبيره من مصالح شخصية…
و ما أجمل الصور حين تقول
فيظل جذر السنديان بلا ضوء
فما أعمق جذر السنديان في غيهب الأرض مما يؤكد الأصالة و العراقة لكن كيف تكون بلا وضوء… في حال استخدم الدين دون إنسانية فلن يتأصل… و الزمن لا يسير إلى الإمام و لكنه ( منكفئ) أي يلوب على نفسه عائداً إلى العصور الجاهلية… يلوك الذكر.. كمن يأكل لقمة فيمضغها دون أن يبتلعها ولكن الممضوغ هنا ( الذكر) فهو لا يتجاوز الأسماع و يتم مضغه بالأفواه… ثم يلفظ من جديد.. على رأس العراء حيث الخواء
البنية الفنيّة
…………………..
القصيدة من الشعر الحر على تفعيلة الكامل متفاعلن فقد نظمت الشاعرة سماعياً تفعيلة قوية السبك فالموسيقى منحت القصيدة مناخاً ملائماً للعمق الفكري للقصيدة.. أما الصور البيانية ففي كل سطر صورة تباهي بجمالها من العنوان وحتى آخر لفظ في القصيدة
ملح كناية عن الصعوبات أو الخير الذي اضمحل بسبب المنع بيد إلهية أو بالأحرى بشرية ( الفاسدين) حجب السماء كناية عن امتناع الخيرات السماوية.
أكتب بحبرك فوق ارغفة اليتامى…
من الشقاء… كناية عن الجوع وقلة المردود للمستضعفين
عجن الرصاص بخبزنا.. كناية عن الحروب وتأثيرها في شح الخيرات.
الموت ملح طعامنا تشبيه بليغ مقلوب… النائبات تصول استعارة مكنية.. تفترش العراء استعارة مكنية.. تسري الحرائق شبهت الحرائق بانسان يمشي ليلاً في استعارة مكنية
هشيم العمر مغبرّاً تجسيد في استعارة تصريحية.
الأحياء كالأموات تشبيه مجمل.
يرطن التكبير كناية عن التعجيم.
يبتلع النداء كناية عن عدم فعالية التكبير.
جذر السنديان بلاوضوء كناية عن عدم الطهارة وعدم جدوى الصلاة و الأدعية.
العصر منكفئ استعارة مكنية و كناية عن الجاهلية.
يلوك الذكر… استعارة مكنية و عدم تفهم آيات القرآن الكريم.
يجترون صوت الريح استعارة تصريحية.
خلعاً لأضرحة الولاة… كناية عن الجهل.. جراح الأرض استعارة مكنية.
تحملهم عظام الوهم استعارة مكنية… الوهم كناية عن الغباء
طبع الشموع تعاقرون النار تشبيه تميثلي صورة بصورة أو مقابلة.
صليب الجرح تشبيه بليغ.
جلد الوقت استعارة مكنية تجترون أوهاماً استعارة مكنية و كناية عن عدم الفاعلية.
تسوس خبز استعارة تصريحية تفيد سيطرة قلة على مصادر العيش الكريم.
تمطر القمح السماء كناية عن انتهاء عصر المعجزات.
الموسيقى الداخلية
………………………..
من أهم مصادر الموسيقى الداخلية تكرار الكلمات مثل ملح.. السماء.. خبز.. حجب.. الشقاء
الحرائق…يجتر.. يجترون
و تكرار الحروف مثل الهمزة و الواو والنون و العين
و الاشتقاق الداخلي مثل جراح.. جرح.، .. خبز.. قمح… ارغفة…
العصر.. عمر… الأرض موطني…
الجناس الناقص :الشقاء..العراء الهواء.. الخواء.. الوباء السماء
الموسيقى الخارجية : أحسنت المبدعة توزيع تفعيلة البحر الكامل
كمل الجمال من البحور الكامل
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
في وحدات صوتية زمانية و مكانية حيث حولت اللفظ و المعنى إلى دلالة صوتية تصل إلى أسماع و قلب كلّ متلقٍ مما أوفى التجربة الشعورية حقها بجمالية
مشحونة بالطاقات العاطفية.
التجربة الشعورية
………………………….
نوع العاطفة إنسانية جماعية
المشاعر العاطفية تدرجت بين الغضب و السخط و شحذ الهمم.
أهم مصادرها :
تكرار الحروف الرعاع… الشقاء.. تعشعش
و الألفاظ مثل يجترون… الموت الأموات.. يرطن وغيرها
تصاعد الخط البياني العاطفي من البداية في خطٍّ متصاعداً حتى وصل الذروة في قولها:ابقوا نياماً
مآخذ القصيدة :
…………………..
أخذت على المبدعة إغراقها في الرمزية في بداية القصيدة جعلتنا في حيرة من المقصود بالخطاب أهو الله.. أم الشاعر أم المتلقي.
عاملت الأحياء معاملة المؤنث في قولها :و الأحياء كالأموات ( تفطر) بالهواء و المفترض معاملتهم معاملة المذكر.
و أصرت ألا تصحح نياماً علماً إنها سبقت و صححتها في القصيدة فيحق لها التخفيف ليعتدل الوزن
و أهم مآخذي جمال و قوة شاعرية ريم البياتي
وهذا الكم الثر من الدهشة و الروعة
د. آسية بديع يوسف
مديرة ملتقى عشتار الثقافي