خليل عبد اللطيف البدراني
حدثني الفرات…..
– في بدايات القرن الماضي كان الحصول على مياه الشرب في مدينة دير الزور فيه مشقة ومعاناة للأهالي…حتى عصر الأربعينيات ، كانت بيوت ديرالزور – حاضرة الفرات- تحصل على ماء شربها من الفرات بواساطة السقائين من نساء ورجال. وكن النساء يتولين تزويد البيوت بماء الشرب ، منهن التي تزود بيتها ليلاًغالباً بقدر أو سطل أو صفيحة( تنكة) تغرف بها الماء من الفرات وتحملها على رأسها إلى بيتها لتفرغها في المزملة وتكرر الذهاب إلى النهر بقدر حاجة بيتها من الماء . ومنهن المحترفات ويسمون( الملايات) ، والملاية هي التي تملأ وعاءها بالماء من المنهل . حيث يزودون البيوت التي تعاقدن معهن بالماء . يحملنه بقربة الجلد على ظهورهن مشدودة بالمرس ومعلق بجبهاتهن ، يمشين في كل الفصول على أرجلهن حافيات لاضطرارهن إلى الخوض في النهر لملئ قربهن . تتسع القربة الواحدة نحو أربعين لترمن الماء . وتفرغ لعملائها في المزملة وهي خابية من الفخار تتسع نحو ستين ليتراً ، توضع على كرسي من الخشب بارتفاع(٦٠سم) . والمزملة تسمية ترجع إلى العصر العباسي وكانت تزمل بالقماش لتبريد الماء ، ومن التزميل جاء اسمها يصنعها فخارون من بلدة عانة العراقية ، يتنقلون بين دير الزور وبلدة البصيرة الواقعة عند مصب الخابورفي الفرات على بُعد(٤٠كم) عن دير الزور تربتها صالحة لصنع المزامل وإلى عهد قريب . غالباً توضع في الحوش تحت عريشة أو المطبخ أو تحت درج السطح ، ولها غطاء من الخشب وعلى كرسي المزملة كف خشبي توضع عليه طاسة النحاس أو كار يغرفون بها الماء للشرب . بعضهم يعلق بطرف المزملة ( منشلاً) عبارة عن طاسة من خوص النخيل عليها زفت ولها يد طويلة عبارة عن عود طوله (٣٠سم) طرفه معقوف يعلق بالمزملة ، وللمنشل هواة يهوون شرب الماء به ، ويأتينا من العراق.
وكان أصحاب البيوت الميسورة تعاقدوا مع ملايتين أوثلاث بأجرة شهرية مجيدي لكل ملاية ، ويعطونهم طعاماً من وقت لأخر وعيديةالعيد. وأكثر ما يأتين بالماء ألى البيوت بين الصباح والظهيرة ، ويستقين من مكان خاص على النهر يسمى ( المارد) ينزلن إليه بدرج وتخوض قليلاً في النهر ، وتطب قربتها وتملأها مباشرة بيدها ، ثم تحكمها بشد فمها بخيط وتحتضنها وترفعها بيدها ….حيث كنّ يغنّ الغناء الفراتي . والمرأة الديرية الأرملة الفقيرة ذات الأولاد الصغار تلجأ إلى القربةتزود البيوت بالماء لتعيل نفسها وأولادها . ولتحضير القربة ينقعون الجلد( من الماعز أو الحولي العجل الصغير ) بماء يحتوي على مسحوق الشعير ولبن وملح وشب مدة يوم . ثم ينتفون الشعر وينظفون الجلد ثم يدهنونه بالدباغ والعفص ، وتدوم القربة نحو سنتين . ولسوق التجار الممتد أمام السرايا التركية ملاية خاصة ترش السوق وتملأ برقان التجار للوضوء والشرب بأجرة معينة . ..ولما اتسعت البلد وزاد الطلب باستهلاك الماء لم تعد الملايات يكفين ، احترف رجال فقراء من المدينة والريف السقاية ، استعملوا أكتافهم ، وصار الرجل السقا يحمل تنكتين ماء بواسطة عصا معلقة بحبل يضعه على كتفيه ، واسم هذه العصا ( مساقة) . وقد تحدث الباحث الأستاذ غسان رمضان في احدى مقالاته عن أحد الرجال هو عيس الهادي الملقب( عيسى الأخرس) وهو رجل فقير عرف في مدينة دير الزور أوائل القرن الماضي ، يعيش متنقلاً بين المدينة والقرية ، عمله يملأ الماء بواسطة المساقات . يحب امرأة من أهل قريته تدعى غزالة ، ومرة سمعها تقول آه على طاسة ماء من الأعيور، فغادر عيسى متوجهاً إلى الدير لجلب الماء لمحبوبته وخلال ثلاثة أيام عاد إلى القرية وهويحمل المساقات مملوءة بالماء الصافي ، وإذا أراد اهل الدير السخرية من أحد قالوا مثل عيس الأخرس . وتقول الأهزوجة الديرية:
ومزملتنا ميها بارد
تصلح شراب لهل حبايب
ومزملتنا بالكيض تبرد
مديلنا الساحة ..تنكعد
ومع الزيادة بطلب الماء صار البعض يستعين بحمار وضع على كل جنب صندوق خشب مكشوف فيه تنكتين ماء ، واستعمل بعضهم قواديس أو براميل صغيرة . واخرون اتخذ طنبراً يقعد على عجلتين يجره كديش. ..( كل هذه التفاصيل الصغيرة تبين مدى المعاناة للحصول على الماء في ذلك الوقت) .
وبنزول السقائين انقطعت الملايات إلا واحدة كانت تعمل في سوق التجار استمرت حتى سنة ١٩٦١ . كانت النساء تتولى تنظيف المزملة من داخلها وخارجها نتيجة الطين الذي يترسب من ماء النهر ، فينظفونها بليف النخل او البشت أو الرمل ، حيث يتباهون بنظافة المزملة ، ومن تهملها تعير بذلك . ويضعون في أسفل المزملة ( قحف) من الفخار تتلقى قطرات الماء المترشحة وتسمى ( ناقوط) ، والمزامل ليست لتبريد الماء فقط إنما لتصفيته ، وبعضهم يصفي الماء بالشب . وماء الفرات للشرب والغسيل ، إنما ماء البئر لغسيل الآنية وسقي البقجة ( جنينة البيت) ، ويجمعون ماءً عذباً كافياً قبل يوم لغسيل الثياب . وهناك ابريق تقليدي من النحاس ذو بطن اسطوانية وعنق وبلبولة وقبضة وله قاعدة ، يملأونه دائماً بالماء العذب ، يوضع وسط الحوش يغسلون منه أيديهم ووجوههم وللوضوء . وفي العشرينيات ألحقت بمطاحن القمح معامل لصنع الجليد ، لكن لم يكن الماء نظيفاً ..ويضع بعض الحوانيت مزملة إلى جانب حانوته على الرصيف ولها طاسة مشدودة بسلسلة للسبيل وطلب الأجر . قديماً لم يدرك سكان المدينة والريفةمشاكل تلوث الماء بالضافة الى قلة الاهتما والعناية من قبل السكان …لكن اليوم الأمور اختلفت كلياً مع دخول التقنيات الحديثة ……
ملاحظة : لوحة المساقات حرق على الخشب للباحث والفنان القدير غسان رمضان .
خليل عبد اللطيف