غابت هذه العبارة سنيناً ، بل عقوداً ، لم أتذكرها مرة ، وكيف أتذكرها وأنا أقيم في المدن ، في هذه الشقق المحكمة الإغلاق ، لا أستطيع من داخلها أن أشهد طقساً مشابهاً لهذا الطقس الذي حرض الذاكرة .
أما في الطفولة ، فقد كانت العبارة تظهر مراراً ، لأن ميداننا الأرحب يكون البرية أو زواريب الحارة .
وربما كان للندرة في حدوث الظاهرة ما يبرر الغياب ، وهي أن يتوافق هطول المطر مع سطوع ضوء الشمس .. وأحياناً مع ظهور قوس قزح ، كي نعلنها في ذلك الوقت ، ويصرخ أحدنا ، ويهتف الآخرون خلفه :
– عم يتجوز الجقل .. عم يتجوز الجقل .. هيه ..
وتذكرتها اليوم ، وعادت إلى سطح ذاكرتي ، وأنا أشهد الظاهرة بتمامها . ولكني لم أستطع أن أخرج العبارة من حدود صمتي .
وحاولت أن أعرف سبباً مقنعاً لزواج الجقل في هذا الطقس ، فلم أجد سوى الدفء الذي يدفع الرغبة لديه أو لدى أنثاه إلى التنامي بعد فترة كمون شبه كاملة في الشتاء ، تقتصر فيها الحركة على تأمين وجبات طعامه .
والجقل ( الثعلب ) كما هو معروف لا يستطيع الابتعاد عن البيوت ، لأن غذاءه مرتبط بنواتجها أو باختلاساته منها ، وكثيراً ما يلجأ للمكر أو الخداع للحصول على وجبته .
ومن الاستحالة أن نراه في مشهد زواجه هذا ، وحتى من الصعب التأكد من جنسه ذكراً كان أم أنثى ، لأنه يخاف من الإنسان ، ويهرب سريعاً عند رؤيته .
وليس هناك من تفسير مقنع للتوافق بين الظاهرتين سوى الدفء .
ولكن قناعتي هذه تبددت وأنا أتذكر بقرتنا التي كانت تعلن عن رغبتها بجنون ، دون أي رابط بفصل من الفصول .. وإعلان رغبتها هذا ، كان يظهر بعدوها ولهاثها ومحاولتها القفز فوق ظهر رفيقتها أو فوق الرعوش وجذوع الأشجار .
وكنت بشيء من الفضول أساعد والدي في اصطحابها إلى أحد الثيران .
أراقب الثور القادم إليها بكل أنفة ، ووالدي الذي يمسك بعنانها خوف هروبها ، ومن ثم تفاصيل إتمام فعل الزواج الأخرى .
تهمد البقرة تماماً بعدها ، وتعود إلى طبيعتها ، ويتم الحمل بشهوره التسعة .
ويقفز تساؤل آخر إلى مخيلتي يؤيد ظاهرة تزاوج الثعالب بعد أن مضى شهر شباط بمواء قططه الذي لا ينقطع :
– لماذا يكون هذا الشهر هو شهر تزاوج القطط ..؟ وهل لذلك علاقة بالدفء أو تنامي الرغبة في هذا التوقيت ..؟
سؤال ربما يحتاج لباحثين متخصصين ليس بعالم الحيوان فقط ، بل بمواسم التزاوج عنده ، وهذا يقود بالطبع إلى حيوانات أخرى تتزاوج في مواسم أخرى لا ترتبط بشهر أو طقس محدد .
أما الإنسان .. فليس هناك من عامل يدفعه للتزاوج سوى الرغبة التي بها ومن أجلها يستمر الكون ، وتخيلت لو أن عملية التزاوج عنده لم تكن مترافقة بالرغبة واللذة الصريحة .. لما استمرت الحياة فعلاً .
فليس من المعقول أن يعلن الزوجان العاقلان أن الأوان قد آن لإنجاب ولد ، فينفذان فعل التزاوج في وقت يكون من المؤكد فيه إتمام عملية الإباضة والتلقيح .
ويبقى الثابت عند الإنسان والحيوان وربما النبات .. أن الدفء هو العامل الأهم في الرغبة والتزاوج واستمرار الحياة
محمد عزوز
كتبت عام 2013
( لوحات قصصية برسم الطبع )