ليس معروفا عن أهل اللاذقية حب الفكاهة كما هو الحال بالنسبة الى دمشق وحلب وحمص ، وليس في أدبياتها هذا الولع بالنكتة السريعة ، وهم اصحاب اللهجة المتراخية ، يمطون الحروف ، الى درجة أن المصريين يقولون بدقيقة مالا يقولونه بدقيقتين او ثلاث .
هذا عن اللهجة البطيئة ، ولكن ماذا عن شعر الفكاهة لديهم ، وهل يخلو مجتمع من روح الدعابة التي تطري الحياة الاجتماعية وتعطيها لونا من الانبساط ، لكي تنتزع الابتسامة من الوجوه حتى في اللحظات الصعبة .
في اللاذقية شعر فكاهة غير قليل ، لم يتم رصده أو دراسته ، باستثناء ماكتبه الباحث هاشم عثمان ابن اللاذقية البار في دراساته الغزيرة والثمينة جدا بوصفها تسجيلا أمينا وموثقا لشعر الفكاهة في اللاذقية .
والملاحظ ان شعر الفكاهة فيها لاينحصر بفئة معينة من اهلها ، بل هو متنوع بين أبنائها بغض النظر عن مهنة شعرائها .
وسوف اورد الآن بعضا من مقاطع شعرية ممتعة قالها اصحابها بدافع المتعة والإضحاك ، واتخذوا الشعر وسيلتهم إلى ذلك بوصفه أكثر سيرورة على الألسنة .
ومن شعراء اللاذقية ، الشاعر المعروف بروح الفكاهة في شعره ( منح هارون ) وهو من أسرة عريقة في اللاذقية ، كان كاتبا وشاعرا ، ونشر كثيرا من أعماله في صحف ومجلات اللاذقية ولبنان .
حين سافر ( أسعد هارون ) عميد آل هرون والأستاذ الكبير القدير (جلال زريق) معا الى مصر ، تعرضا للسرقة من أحد النشالين هناك ، فسرق حذاء جلال زريق ، وسرق خاتم أسعد هارون ، وقد ذكر الشاعر منح هارون هذه الحادثة ساخرا ، ومؤكدا أنه لو تتبعهما النشال لسرق طربوشيهما ، ولو بقي الاثنان يوما آخر لتمكن النشال المصري من سرقتهما بذاتهما ، فقال :
( كلوش) جلال ، قل لخاتم أسعد:
إذا أنا من رجل ، فأنت من اليد
أنشال مصر لو تبعت خطاهما
لظفرت بطربوشيهما أو كأن قد
وقد يأخذ النشال أسعد نفسه
ونفس جلال ، لو أقاما الى غد
والكلوش نوع من الأحذية .
اما الشيخ (سعيد المطرجي )احد مشائخ اللاذقية وإمام مسجد حارة الشحادين كما كانت تسمى ، فقد حاول ان يصبح محاميا ولكنه اخفق في ذلك ، وكان المحامي آنذاك يسميه أهل اللاذقية ابو كاتو ، وهي كلمة ماخوذة من افوكاتو الفرنسية ، فقال في ذلك :
أردت بأن أكون أبا لكاتو
و كاتو ما ارادتني اباها
لذاك تركتها هربا بديني
ه ورحت أروم لي بنتا سواها
وكانت بلدية اللاذقية قد عينت موظفا لها يكنى بأبي صبري ، كانت مهمته التجوال في شوارع المدينة ، وتسميم الكلاب فيها ، فقال الشيخ( سعيد ) في ذلك :
يسمون الكلاب بغير ذنب
ولكن ، خوف داء في اللعاب
وقد تركوا أناسا دون سم
أضر على العباد من الكلاب
وقد سخر الشيخ (سعيد ) سخرية تدعو الى العجب ، من شروط التوظيف التي أهمها ان يكون طالب التوظيف حاملا (السرتفيكا) أي الابتدائية ، وهي التي كانت معتمدة من قبل الفرنسيين بغض النظر عن الكفاءة :
إذا ما كنت ذا شرف وعلم
واخلاق بها تسمو الملوكا
فما لك في الوظائف من نصيب
لأنك لست تحمل سرتفيكا
و كان هناك مطعم شهير على كورنيش اللاذقية ، قرب مقام البطرني ، اسمه مقهى منجفيكا ، وهو اسم مالكه ، وكان معروفا بغلاء أسعاره ، فقال فيه أحد الشعراء الظرفاء في اللاذقية :
إذا رمت الذهاب ل (منجفيكا )
تأبط ، يارعاك الله ، (شيكا)
وإن ضاقت جيوبك عن فلوس
فأملئ بالدراهم جوربيك
وإن غضب الزمان عليك يوما
ورمت الأكل فوااسفي عليك
فلا الطربوش ترهنه بكاف
ولا الجاكيت توفي ماعليك
لقد شلحتنا من غير حرب
فما هذا الغلا يامنجفيكا ؟
ويقال إنه بعد هذه القصيدة امتنع الناس عن الذهاب إلى هذا المقهى ، فاضطر صاحبه لإغلاقه .
ونعود الى الشاعر( منح هارون ) الذي حدثنا عن رقيب في الشرطة اسمه(الخش) تم ترفيعه الى مساعد ، وكان تحت إمرة هذا الرقيب شرطيان ، احدهما يدعى ( الأرمنازي ) والثاني يدعى (طنش ) فقال في ذلك منح هارون :
ياخش خشخش وفرفش
وأعط الهدايا وبخشش
وانزل إلى البحر واسكر
على الشطوط وحشش
. وفي ركابك يمشي
الأرمنازي وطنش
معنى فرفش : افرح . وبخشش : ادفع البخشيش وهو الحلوان .
وواضحة روح الدعابة والضحك من السلوك الذي يتميز به الشرطة ( البخشيش) منذ ذلك التاريخ . وهو سلوك يسخر منه الشاعر منح هارون ، لأن هذه السخرية تجد صداها لدى العامة .
وكان للشيخ( عماد الأزهري ) مكتبة لا يسمح لأحد ان يطلع عليها ، وبسبب قلة استعمالها فقد قرطتها حشرة هي ( أرضة ) بتشديد الضاد ، وتسميها العامة (السميكة ) فقال فيها الشيخ ( محمد سلامة الصوفي ) الذي كان له قصائد كثيرة ، ويعمل بالتجارة :
تكفل ربنا بالرزق طرا
ومنه لخلقه رفق ولطف
فلا تخشي (أرضة) واستبيحي
فكتب الأزهري عليك وقف
وهذا يعني ان حبس الكتب عن قرائها كان يعد عملا أنانيا منبوذا .
ونظل في موضوع غلاء الأسعار التي كانت تشكو منه الطبقتان الفقيرة والمتوسطة ، وقد تحدث عن ذلك بسخرية الشاعر (عبد السلام جود ) وهو شاعر له اعمال مطبوعة ، وكان يعمل في الصحافة ، فوجه الى ( المتليك ) وهي عملة تركية تساوي القرش ، حديثه إليه يشكوه الحالة التي وصل إليها :
ولقد طفرت ولم يعد في جيبتي
من بعد جودك سيدي ( متليكا)
طفران ملتهب الجيوب أكاد من
طفري أدق الطبل و المزيكا
وبجيبتي نفق يؤدي لترعة
للهند فيها ألف الف فلوكا
لولا ندى كفيك مت ملهلبا
يا سيدي ، الله لا يرديكا
(الفلوكا : زورق بلغة أهل اللاذقية . ملهلب : هي أيضا من كلمات اهل اللاذقية ، وتعني المصروع والمضطرب ) .
لقد كانت روح الفكاهة بادية في هذه الاشعار التي اخترت منها قليلا من كثير ، وتتسم هذه الروح بالدعابة والإضحاك ، ومن أجل ذلك تستخدم الالفاظ العامية الاكثر تعبيرا عن الحياة العادية ، وتؤشر الى بعض الأمراض الاجتماعية التي كانت سائدة ، ثم إنها تصدر عن شعراء شعبيين ، ولكنهم يلتزمون قواعد اللغة العربية ، وقواعد الوزن الشعري ، مع استثناءات طفيفة .
وهذه النزعة الى الدعابة لاتتجه الى النيل من الآخرين بالأذى ، وإنما تستخدم اللغة الاقل إيذاء ، وتحافظ على الذوق العام ، لتضمن سيرورة هذه المقطوعات الشعرية على الألسن لتمريرها إلى جلسات السمر في المقاهي التي كان يرتادها الناس بكثرة .
هناك مجال واسع لدراسة هذه الظاهرة ، وما قدمته الآن لايفي بالغرض ، لأن هناك جوانب عدة تناولها هؤلاء الشعراء الضاحكون ولم تشملها هذه الدراسة ، وقد أعود إليها أنا او غيري .
واود في الختام أن أشكر الباحث الكبير هاشم عثمان الذي امدني بهذه الأشعار من مكتبته فائقة الاهمية .