غريب هذا الخطاب السياسي شبه اليومي، الذي خلاصته: ممنوع أن تدافعوا عن مسيحيي سوريا. طبعاً حججه كثيرة، وذرائعه أكثر. منها أن الاجتزاء في الدفاع عن الإنسان ليس إنسانية. ومنها أن الضحايا ــــ أي مسيحيي سوريا تحديداً ــــ جرّت على أنفسها ويلها، نتيجة موقفها من النظام. ومنها حتى، أن لا اضطهاد اصلاً لهؤلاء، ولا إبادة ولا حتى مشكلة. بدليل أن ميشال كيلو يكتب وجورج صبرا يسافر ثائراً، أو يثور مسافراً، لا فرق.
صحيح أن الخلفية السياسية والمصلحية لهذا الخطاب معروفة. لكن الخطير أنه تخطى هذه المرحلة، ليصبح نوعاً من «الخطاب الثقافي» الجديد. لأن في أصله مشكلة سيكولوجية واحدة: هو شيء من ضرورة إنكار الجريمة لتبرير العجز حيالها. أو أكثر، شيء من التعمية على واقع الضحية، نظراً الى الارتباط الفعلي أو الذهني بالجلاد. وفي كل الأحوال هو شيء من الإحساس بالذنب أو وخز الضمير ـــــ أو وخز المسلة، في حالة انعدام الضمير ــــ يجعل هؤلاء، كلما أصيب مسيحي في معلولا أو سواها، ينتفضون للرد والقول بعبارات ملتوية: لسنا مسؤولين عن جريمة حلفائنا!
ولأن الأمر بلغ هذا الحد فعلاً، لا بد من تسليط الضوء عليه، وتبسيطه في آن. انطلاقاً من سلسلة أسئلة محددة، ومتتالية بالمنطق والاستدلال.
أولاً، هل ثمة خطر موت في «ثورة» سوريا أو آت من «ثوارها»؟ لتلمّس الجواب على ذلك، يكفي التساؤل، بمعزل عن مئات الكنائس والأديرة والمقار الدينية المهدمة والمدمرة والمستهدفة عمداً وقصداً وحرقاً، هل كان المطرانان ابراهيم واليازجي من أنصار النظام؟ هل تستطيعون التأكيد مثلاً أن الأب فادي حداد، الذي قتله ثواركم بأبشع وسائل القتل، كان من «شبيحة الأسد»؟ هل تجزمون مثلاً أن الراهب فرانسوا مراد، الذي ذبحه فتيان ربيعكم الآتي، كان من مخبري الأجهزة السورية مثلاً؟ أكثر من ذلك، لا بل أوضح وأوقح، هل تعرفون مع من كان الأب باولو داليليو؟ كان مع ثورتكم. كان مؤيداً لثواركم. كان خصماً للنظام مثلكم، ومعارضاً للأسد، كما تريدون للآخرين أن يكونوا، وتدعونهم لأن يصيروا. فلماذا قتله ثواركم؟ لماذا ذبحوه؟ لماذا فصلوا رأسه عن جسده؟ لأنه مسيحي، ولأنه مسيحي لا غير.
إذن الموت موجود. لا بل هو مؤكد. أكثر من مؤكد، إنه محتوم، بدليل الأب باولو. تصوّروا أنكم أنصار «ثورة»، كالتي تدعونهم إلى تأييدها. إذا هُزمتم، خسرتم. وإذا انتصرتم ذُبحتم وضُربت أعناقكم وحُزّت رقابكم، مثل منظر هذا الشيشاني وهو يذبح ثلاثة مساكين… هل شاهدتم تسجيل ثورته وثورتكم العظيمة، قبل أن تتحفونا بلفظكم ووعظكم وغيظكم؟
إذن الموت هناك، وهو محتوم. ما يفرض السؤال الثاني: ماذا على هؤلاء المسيحيين، وغير المسيحيين، وعلى المدنيين والأبرياء، أن يفعلوا؟ نظرياً، وبمنطقكم الذي تدعونهم إلى تبنيه واعتماده، عليهم أن يكونوا من أنصار «الثورة الأصيلة». «الثورة الحقيقية». تلك التي لا تطلب من الخارج إلا «حليب الأطفال» و«ستر عورات النساء». لكن الواقع يفيد أن هؤلاء باتوا ملاحقين من ثورتهم بتهم الفساد. فضلاً عن أن أفضالهم عندنا معروفة. اسوأ من ذلك، ها هي صحيفة تابعة لكم، تشهد قبل يومين، أن قادة تلك «الثورة» لم يعودوا قادرين على مغادرة حفرهم الفردية، خوفاً من التصفية على أيدي التكفيريين. هكذا، يبدو أن خياراً آخر بقي أمام من تنظّرون عليهم من بعيد. لم يبق لهم إلا الاستعانة بالنظام. ولم يبق لهم غير الوقوف إلى جانب جيشه. ولنفكّر هنا بمنطقكم نفسه، ولو كان مجانباً للمنطق: هل جريمة من الكبائر أو الفظائع ان يفعلوا ذلك، للبقاء أحياء؟ طيب، فكروا قليلاً أنكم أنتم بالذات، كنتم طيلة عقد، وما زلتم حتى اليوم تتفاخرون بذلك وتتباهون وترفضون أي انتقاد أو توبة، كنتم من أصحاب نظرية «التعامل مع الشيطان من أجل الدفاع عن الذات». علماً أن شيطانكم هذا لم يكن يومها إلا اسرائيل. وعلماً أن «دفاعكم عن نفسكم» ذاك، لم يكن فعلاً استجابة ضرورية لغريزة البقاء عند لحظة الموت الأكيد. بل كان أقرب إلى لعبة سلطة وصراع نفوذ وحماية مكتسبات وحفظ امتيازات. حسناً، ألا تفهمون بالتالي، وأنتم العائدون من نهاريا والنازلون عن الدبابة الاسرائيلية بحجة الإحساس بالخطر، أن يقف سوري إلى جانب نظامه ومع جيشه، وهو يرى مصير الأب باولو وضحايا أفران عدرا؟ إلا، إلا، إذا كنتم تعتبرون بشار الأسد شراً أكبر من اسرائيل، أو ترون في السلاح الفلسطيني ــــ الذي تصالحتم معه لاحقاً ومددتموه بالذخيرة والسلاح والمال ضد لبنانيين ــــ أسوأ بكثير من خناجر «داعش» وفؤوس «حاشا» وسواطير «النصرة». وفي هذه الحال، قولوا ذلك للناس علناً. قولوا انكم تعتبرون الصهيوني أرحم من النظام السوري، وترون في التكفيري سماحاً ارحب من الفلسطيني. اما النفاق بهذا الشكل على حساب ارواح الناس وحيواتهم، فجريمة قد تبزّ جرائمكم السابقة فظاعة، كأنكم في سباق مع أنفسكم للتفوق في بشاعة الارتكاب…
تبقى معزوفة «الربيع العربي». تلك الذريعة الجوفاء ــــ الإدانة القاطعة لأصحابها. نعم هناك حراك في المنطقة. ونعم هو حراك لا بد من الرهان عليه، من أجل حياة حرة كريمة لإنسان هذه المنطقة. لكن، ما هو جوهر هذا الحراك؟ حربٌ تاريخية ضد ليلى الطرابلسي ومثيلاتها اللبنانيات الكثيرات؟ ثورة القرن ضد حسني مبارك هي؟ أو تكرار تجربة الباستيل ضد تراث بدوي الجبل وأدونيس ومحمد الماغوط والجواهري وكوليت خوري ودريد لحام وغيرهم؟ فلتكن لكم الجرأة والشجاعة لقولها: الربيع الوحيد الجدي والممكن، هو المواجهة مع الفكر الأصولي التكفيري الجهادي، الذي مصدره حلفاؤكم وحدهم. الثورة الوحيدة الضرورية في المنطقة، هي الثورة ضد الذين يموّلون قلاعكم وآلاف اطباقكم اليومية. التحرر الوحيد المنشود في عصرنا، هو ضد مفتي ولي نعمتكم، الذي قال بضرورة هدم كل كنائس المنطقة، يوم خرستم وبلعتم ألسنتكم السيئة الخبيثة… ليس حلف أقليات إذن. بل هو إرهاب أقلية، باسم أكثرية، لكل الأكثرية ولكل الجماعات ولكل إنسان حر كريم… إلا لمن كان ذمياً انكشارياً مقنّعاً أو سافراً.
غريب منطق التاريخ ومفارقاته. فهو علّمنا أنه حتى هتلر، كان له يهوده. لكن التاريخ الأكثر سواداً نفسه، لم يكن يتوقع أن يكون لـ «داعش» ونصرتها وحاشاها … مسيحيون، ووقحون أيضاً.
صحيح أن الخلفية السياسية والمصلحية لهذا الخطاب معروفة. لكن الخطير أنه تخطى هذه المرحلة، ليصبح نوعاً من «الخطاب الثقافي» الجديد. لأن في أصله مشكلة سيكولوجية واحدة: هو شيء من ضرورة إنكار الجريمة لتبرير العجز حيالها. أو أكثر، شيء من التعمية على واقع الضحية، نظراً الى الارتباط الفعلي أو الذهني بالجلاد. وفي كل الأحوال هو شيء من الإحساس بالذنب أو وخز الضمير ـــــ أو وخز المسلة، في حالة انعدام الضمير ــــ يجعل هؤلاء، كلما أصيب مسيحي في معلولا أو سواها، ينتفضون للرد والقول بعبارات ملتوية: لسنا مسؤولين عن جريمة حلفائنا!
ولأن الأمر بلغ هذا الحد فعلاً، لا بد من تسليط الضوء عليه، وتبسيطه في آن. انطلاقاً من سلسلة أسئلة محددة، ومتتالية بالمنطق والاستدلال.
أولاً، هل ثمة خطر موت في «ثورة» سوريا أو آت من «ثوارها»؟ لتلمّس الجواب على ذلك، يكفي التساؤل، بمعزل عن مئات الكنائس والأديرة والمقار الدينية المهدمة والمدمرة والمستهدفة عمداً وقصداً وحرقاً، هل كان المطرانان ابراهيم واليازجي من أنصار النظام؟ هل تستطيعون التأكيد مثلاً أن الأب فادي حداد، الذي قتله ثواركم بأبشع وسائل القتل، كان من «شبيحة الأسد»؟ هل تجزمون مثلاً أن الراهب فرانسوا مراد، الذي ذبحه فتيان ربيعكم الآتي، كان من مخبري الأجهزة السورية مثلاً؟ أكثر من ذلك، لا بل أوضح وأوقح، هل تعرفون مع من كان الأب باولو داليليو؟ كان مع ثورتكم. كان مؤيداً لثواركم. كان خصماً للنظام مثلكم، ومعارضاً للأسد، كما تريدون للآخرين أن يكونوا، وتدعونهم لأن يصيروا. فلماذا قتله ثواركم؟ لماذا ذبحوه؟ لماذا فصلوا رأسه عن جسده؟ لأنه مسيحي، ولأنه مسيحي لا غير.
إذن الموت موجود. لا بل هو مؤكد. أكثر من مؤكد، إنه محتوم، بدليل الأب باولو. تصوّروا أنكم أنصار «ثورة»، كالتي تدعونهم إلى تأييدها. إذا هُزمتم، خسرتم. وإذا انتصرتم ذُبحتم وضُربت أعناقكم وحُزّت رقابكم، مثل منظر هذا الشيشاني وهو يذبح ثلاثة مساكين… هل شاهدتم تسجيل ثورته وثورتكم العظيمة، قبل أن تتحفونا بلفظكم ووعظكم وغيظكم؟
إذن الموت هناك، وهو محتوم. ما يفرض السؤال الثاني: ماذا على هؤلاء المسيحيين، وغير المسيحيين، وعلى المدنيين والأبرياء، أن يفعلوا؟ نظرياً، وبمنطقكم الذي تدعونهم إلى تبنيه واعتماده، عليهم أن يكونوا من أنصار «الثورة الأصيلة». «الثورة الحقيقية». تلك التي لا تطلب من الخارج إلا «حليب الأطفال» و«ستر عورات النساء». لكن الواقع يفيد أن هؤلاء باتوا ملاحقين من ثورتهم بتهم الفساد. فضلاً عن أن أفضالهم عندنا معروفة. اسوأ من ذلك، ها هي صحيفة تابعة لكم، تشهد قبل يومين، أن قادة تلك «الثورة» لم يعودوا قادرين على مغادرة حفرهم الفردية، خوفاً من التصفية على أيدي التكفيريين. هكذا، يبدو أن خياراً آخر بقي أمام من تنظّرون عليهم من بعيد. لم يبق لهم إلا الاستعانة بالنظام. ولم يبق لهم غير الوقوف إلى جانب جيشه. ولنفكّر هنا بمنطقكم نفسه، ولو كان مجانباً للمنطق: هل جريمة من الكبائر أو الفظائع ان يفعلوا ذلك، للبقاء أحياء؟ طيب، فكروا قليلاً أنكم أنتم بالذات، كنتم طيلة عقد، وما زلتم حتى اليوم تتفاخرون بذلك وتتباهون وترفضون أي انتقاد أو توبة، كنتم من أصحاب نظرية «التعامل مع الشيطان من أجل الدفاع عن الذات». علماً أن شيطانكم هذا لم يكن يومها إلا اسرائيل. وعلماً أن «دفاعكم عن نفسكم» ذاك، لم يكن فعلاً استجابة ضرورية لغريزة البقاء عند لحظة الموت الأكيد. بل كان أقرب إلى لعبة سلطة وصراع نفوذ وحماية مكتسبات وحفظ امتيازات. حسناً، ألا تفهمون بالتالي، وأنتم العائدون من نهاريا والنازلون عن الدبابة الاسرائيلية بحجة الإحساس بالخطر، أن يقف سوري إلى جانب نظامه ومع جيشه، وهو يرى مصير الأب باولو وضحايا أفران عدرا؟ إلا، إلا، إذا كنتم تعتبرون بشار الأسد شراً أكبر من اسرائيل، أو ترون في السلاح الفلسطيني ــــ الذي تصالحتم معه لاحقاً ومددتموه بالذخيرة والسلاح والمال ضد لبنانيين ــــ أسوأ بكثير من خناجر «داعش» وفؤوس «حاشا» وسواطير «النصرة». وفي هذه الحال، قولوا ذلك للناس علناً. قولوا انكم تعتبرون الصهيوني أرحم من النظام السوري، وترون في التكفيري سماحاً ارحب من الفلسطيني. اما النفاق بهذا الشكل على حساب ارواح الناس وحيواتهم، فجريمة قد تبزّ جرائمكم السابقة فظاعة، كأنكم في سباق مع أنفسكم للتفوق في بشاعة الارتكاب…
تبقى معزوفة «الربيع العربي». تلك الذريعة الجوفاء ــــ الإدانة القاطعة لأصحابها. نعم هناك حراك في المنطقة. ونعم هو حراك لا بد من الرهان عليه، من أجل حياة حرة كريمة لإنسان هذه المنطقة. لكن، ما هو جوهر هذا الحراك؟ حربٌ تاريخية ضد ليلى الطرابلسي ومثيلاتها اللبنانيات الكثيرات؟ ثورة القرن ضد حسني مبارك هي؟ أو تكرار تجربة الباستيل ضد تراث بدوي الجبل وأدونيس ومحمد الماغوط والجواهري وكوليت خوري ودريد لحام وغيرهم؟ فلتكن لكم الجرأة والشجاعة لقولها: الربيع الوحيد الجدي والممكن، هو المواجهة مع الفكر الأصولي التكفيري الجهادي، الذي مصدره حلفاؤكم وحدهم. الثورة الوحيدة الضرورية في المنطقة، هي الثورة ضد الذين يموّلون قلاعكم وآلاف اطباقكم اليومية. التحرر الوحيد المنشود في عصرنا، هو ضد مفتي ولي نعمتكم، الذي قال بضرورة هدم كل كنائس المنطقة، يوم خرستم وبلعتم ألسنتكم السيئة الخبيثة… ليس حلف أقليات إذن. بل هو إرهاب أقلية، باسم أكثرية، لكل الأكثرية ولكل الجماعات ولكل إنسان حر كريم… إلا لمن كان ذمياً انكشارياً مقنّعاً أو سافراً.
غريب منطق التاريخ ومفارقاته. فهو علّمنا أنه حتى هتلر، كان له يهوده. لكن التاريخ الأكثر سواداً نفسه، لم يكن يتوقع أن يكون لـ «داعش» ونصرتها وحاشاها … مسيحيون، ووقحون أيضاً.