أي خوض في ظاهرة الحركات المتأسلمة ، التي اتخذت من ليل الإسلام جملاً، فامتطته للإيغال بعيداً في الباطل، لا يمكن أن يتم بعيداً عن خلفية أروقة الأجهزة الإستخبارية العالمية ومصالح دولها، فمهما كانت الكلمات بليغة والعبارات عميقة، ستظل سطحية إن كانت بعيدة عن هذه الخلفية لكل تلك الحركات، وهي بالدرجة الأولى تلك الأجهزة الأمريكية والغربية وحتى (الإسرائيلية) التي كانت من بادر لاختراع ذلك الإسلام ثم بحثت له عن حاملين وناشرين، فوجدت ضالتها في أؤلئك القوم، الذين توفرت فيهم نفس الصفات التي كان يبحث عنها "مستر همفر" من غرورٍ وحمق، فوجدها في شخص محمد عبدالوهاب، وقد يكون من شديد السخرية أن يطل معارض سوري على أحد الشاشات متهماً البغدادي بأنه "شيعي" ولم يكتف بما يردد أمثاله بأن داعش اختراع إيراني سوري مشترك، ولكن بعيداً عن نوايا المعارضة ومموليها، فالأمر يدعو للتأمل لا للسخرية، فهذه الجماعات وليس داعش فقط هي مرتع لكل أجهزة المخابرات، ويكاد الأمر يكون يقيناً بأن الأجهزة الإيرانية والسورية وحتى الجهاز الأمني لحزب الله لهم باع طويل داخل تلك الحركات، ولكنها لم تنشئه أصلاً، ولم تخترقها لتشويه ( الثورة) كما تدعي ما تسمى بالمعارضة السورية، إنما هو دفاعاً عن النفس واستباقاً للحرب.
وبإطلالة سريعة على التاريخ القريب والأقرب لتلك الحركات، في أفغانستان والعراق، نعرف أن النزاع البيني ليس وليد الصدفة وليس كذلك بسبب الصراع على السلطة، وليس بسبب الاختلافات الفقهية والشرعية، ولم يكن السبب كذلك في أفغانستان هو محاولة حزب الله أو النظام السوري لتشويه نصر المجاهدين على السوفييت، فبعد انسحاب الاتحاد السوفييتي بدأ "المجاهدون" حربهم الطاحنة فيما بينهم، وقد تناول الخبراء في تلك الحركات هذه الحرب من زوايا مختلفة، منها الديني والقبلي والسلطوي، والواضح أن كل هذه الأسباب كانت مجرد مبررات لشرعنة الحرب من ناحية في عقول المتحاربين وإلهائهم في أنفسهم من ناحية أخرى، حيث أن من صنعها حاول وأدها أو على الأقل إنهاكها، وتناول تلك الحرب بعيدأ عن خفايا الأجهزة الاستخبارية يجعل الأمر غير مقتع، وإلا كيف نفسر سيطرة طالبان المولود الجديد على عتاولة وأمراء الحرب واستتباب الأمر لها، ومن ثم ظلت على علاقة وطيدة بالدولة الباكستانية وحهازها الاستخباري وهو الوسيط الرئيسي بين "المجاهدين" الأفغان والعرب وجهاز "السي آي إيه"، ثم وبعد الغزو الأمريكي لأفغانستان بسنوات، تقوم طالبان بافتتاح مكتب تمثيلي لها في قطر على عين القواعد الأمريكية، وليس بأقل من هرطقات ما يسمى بالمعارضة السورية ، استطيع الهرطقة فأقول إن قطر دولة ذات سيادة.
وبالنظر إلى الكم الهائل من هذه الحركات الإنشطارية، التي استطاعت الأجهزة العالمية تفريخها، نستطيع الجزم بأنها تفوقت على الملك المغربي مولى اسماعيل بن شريف في القرن السابع عشر، حيث أنجب أكثر من ألف طفل، من أربع زوجات وخمسمئة جارية، فذاكرة الحاسوب وحدها هي القادرة على حفظ تلك المسميات لتلك التنظيمات، وفي هذا الإطار الانشطاري والاستخباراتي نستطيع أن نضع تلك المعارك الدموية بين تلك التنظيمات على الأرض السورية، فالصراع الإقليمي والدولي على أشده حد الكسر والإلغاء، فهذه المعارك لا يمكن الاكتفاء بتصنيفها على أنها معارك بين "مؤمنين"و"بُغاة"من زاوية رؤيتهم الشرعية، وإلا لكان شخص بخفة وزن وزير دفاع حكومة طعمة قادر على إيقافها، ولكن ألا يستطيع شخص بوزن الظواهري في عرف القاعدة وقفها رغم مناشداته ونداءاته، نكون أمام حرب استخباراتية لنقل عدوى الانشطار من التنظيمات إلى الجغرافيا، على قاعدة إن لم تستطع اسقاط الدولة فاجعلها فاشلة يتنازعها أمراء الحرب و"الشريعة".
من زاوية أخرى وليست بعيدة عن رغبات تلك الأجهزة، فقد حصل الجولاني بنصرته على وسيط خليجي هواه «النصرة» من الظواهري، كي يكون محكِّماً غير محايد، كما ضمنت النصرة ولاءات تنظيمات القاعدة المنتشرة والمنشطرة باستثنائها في اليمن والصومال والعراق ، وإذا أخذنا بعين الاعتبار مصادر التمويل النفطية، والمهلة الممنوحة من «النصرة» لـ"داعش "للقبول بالمصالحة، والتي تنتهي اليوم، والتي حتماً لن تقبلها وإلا لما انسحبت باتجاه الرقة، وإن قبلت فلن يكون لها العمر الطويل، حيث يقودنا ذلك للاستنتاج بأن الجولاني قيد تجربة صلاحية خلافته للظواهري، والنجاح في الاختبار ثمنه رأس البغداي وليس رأس التنظيم، فهذه التنظيمات بلا رأس، فيصح تسمية هذه الحرب بلا مجازفةٍ حرب الخلافة والتشطير، فيربح الجولاني خلافته، ويكسب الظواهري تقاعداً مشرفاً كتقاعد سلفه، والأهم تكسب الأجهزة تراجع ثقل داعش نحو العراق لتتكفل بتشطيره ابتداءً من الأنبار، فيما تتكفل النصرة بتشطير سوريا ابتداءً من درعا.
هذا الاستنتاج يجعل من الأمر يبدو عسيراً على الدولة السورية خصوصاً والمنطقة عموماً، ويجعل منها منتصراً لم يحن بعد وقت إعلان انتصاره، وهذا الحين يتسبب في حصرية الخيارات، بين الحرب الشاملة أو التسوية الشاملة، متقدماً على الحصرية الثانية، وهي الحرب الجزئية والتسوية الجزئية، وبما أن التاريخ يصطدم عادة بسدود نواميس الطبيعة وسنة الدفع، فهو يحتاج إلى التفجيرات من زمنٍ إلى آخر حتى يكمل مسيرته، لأن طبيعته لا تقبل التوقف والانتظار، فقد نكون على أبواب تفجيرٍ قريب، سيكون له تشظياته وضحاياه إن كان حرياً أو سلماً.