في التاسع و العشرين من آذار من عام 2006 تبنى البرلمان البريطاني قانونا يُلزم به المواطنين باستصدار بطاقات الهوية الشخصية، يومها أكَّدت الحكومة البريطانية أنَّ هذا الإجراء بات ضرورة تفرضها الحرب على الإرهاب تماماً كما كانت عليه الحال في حقبة الحربين العالميتين الأولى والثانية حينما فُرِض على البريطانيين حمل البطاقة الشخصية كإجراء أساسي لمكافحة التجسس و محاربة الإجرام و ذلك قبل أن يتم الإعلان عن إلغاءها عام 1952.
من جانبها رأتْ منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أنّ إلزام المواطن البريطاني بحيازة بطاقة الهوية الشخصية إنما يُشكّل انتهاكاً فظاً للخصوصية الفردية، و خطوة من شأنها تمكين الشرطة من ممارسة مزيدٍ من الاضطهاد بحق البريطانيين من أصول أجنبية.
ربما يبدو للوهلة الأولى أنَّ موقف المنظمات الحقوقية مُبالغ فيه إذ من حق كل حكومة اتخاذ ما يلزم من إجراءات تمكّنها من التعرف على هوية الأشخاص الذين تشك بأمرهم، و لعل من أبسط تلك الإجراءات هو استصدار بطاقة الهوية الشخصية التي تحتوي على المعلومات الأساسية المتعلقة بكل فرد، معلومات تكون بمثابة رأس خيط يسمح للسلطات المختصة بمعرفة أكبر قدر ممكن عن تحركات و أنشطة و شبكة علاقات المشكوك بانتهاكهم القانون، و لكن ما قد يجهله الكثيرون هو أنَّ السلطات البريطانية ـ شأنها بذلك شأن كل الدول الأوربية ـ لديها علم وثيق بكل تحركات مواطنيها إذ وفقاً لإحصاء صادر عام 2006 تستحوذ بريطانيا على 10 % من ترسانة كاميرات المراقبة الموجودة في العالم أجمع، أي حوالي أربعة ملايين كاميرا منتشرة في الأماكن العامة، يُضاف إليها بضعة ملايين أخرى منتشرة في أماكن العمل، و يُقدر المعدّل الوسطي لعدد الكاميرات التي ترصد عدساتها المواطن البريطاني بـ 524 كاميرا يومياً ناهيك عن رقابة أجهزة الشرطة و وحدات مكافحة الإرهاب و أجهزة الاستخبارات البريطانية المتنوعة، هذه الرقابة العاتية يُعبر عنها أصدق تعبير شعار " انتبه الأخ الأكبر يراقبك "، شعارٌ أطلقه ـ عام 1949ـ الكاتب البريطاني جورج اورويل في روايته المُسماة ( 1984 ) ليحذّر به من القبضة الأمنية التي ستتحكم برقاب العباد إذا ما قُدر للأحزاب الشيوعية أن تصل لسدة الحكم في أوروبا.
وبعد .. هل يُعقل ألا تكون السلطات البريطانية خصوصاً و الأوروبية عموماً على دراية تامة بعمليات تنشئة و تجنيد و إرسال الإرهابيين إلى سورية ؟.
في الواقع ـ و أمام المعطيات المذكورة أعلاه ـ لا يمكن حتى لمتوسطي الذكاء أن يردّوا بالإيجاب على هذا السؤال، من هنا يظهر جلياً أنَّ كلّ صراخ الغرب و فزعه من عودة " إرهابييه "هو محض هراء، هراء مافتئ الكثيرون من المحللين العرب يرددونه بكثير من الشماتة و التشفي دون أن يلحظوا أنهم بفعلهم هذا إنما يدعمون الحجج التي قد يتخذها الغرب ذريعة لغزو سورية ـ و من خارج ميثاق الأمم المتحدة ـ بدعوى مكافحة الإرهاب، ففي شهادته أمام لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي ـ و بحسب ما ذكر موقع هيل ـ صرَّح مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية جيمس كلايبر " بأنَّ سورية باتت مركز جذب قوي للمتطرفين، ولطوفان المقاتلين الأجانب ، وللمجموعات الإرهابية ـ جبهة النصرة تحديدا ـ هؤلاء جميعا لديهم نوايا بمهاجمة الأراضي الأمريكية "، كلايبر أكّد " وجود ما بين 75 ألف إلى 110 آلاف مقاتل أجنبي على الأرض السورية "، لافتاً إلى" بداية ظهور معسكرات لتدريب المتطرفين الأجانب القادمين من 50 دولة أجنبية و من ثم ترتيب عودتهم إلى دولهم لتنفيذ عمليات إرهابية ".
بدورها أشارت عضو مجلس الشيوخ ديان فينشتاين إلى " أنّ سورية باتت قاعدة انطلاق للإرهابيين الساعين لمهاجمة الولايات المتحدة، وأعمال هؤلاء الإرهابيين في سورية أضحت مرعبة حتى بالنسبة إلى أيمن الظواهري الذي صرَّح بأن هكذا أفعال باتت لا تحتمل ".
من هذه الوقائع نفهم لماذا عارضت الدول الراعية لـ(جنيف 2) إدراج بند مكافحة الإرهاب كأولوية للحل السياسي في سورية، بتقديرنا، هكذا بند سيكون من شانه إجهاض الأهداف التي يسعى الغرب لتحقيقها في سورية من خلال دعمه للإرهاب، وأهمها هدفين: الأول هو التخلص من إرهابيه ( و أغلبهم من المسلمين) عبر زجّهم في أتون الجحيم السوري، وعليه ففي حال صمود الدولة السورية ـ و هو الحاصل اليوم ـ فإنَّ سحقهم سيكون على يد الجيش السوري الجبّار، و إلا فعلى يد الجيوش الغربية الغازية أما بذريعة مكافحة الإرهاب أو تحت شعار التدخل العسكري الإنساني من اجل تخليص الشعب السوري من الإرهابيين، و في كلتا الحالتين المستفيد هو "إسرائيل".
أما الهدف الثاني ( وهو الغائب تماماً عن ذهن الغالبية العظمى من المتعاطين للشأن السوري) فهو إجهاض كل أمل لمسلمي أوروبا بالتحول إلى وزن سياسي يوازي وزنهم الديموغرافي، واستطيع أنْ اجزم بأن هذا الهدف الذي عجزت هجمات 11 أيلول عن تحقيقه قد تحقق في حروب الربيع العربي، فمن خلال الزج بمسلمي أوروبا في الحرب الإرهابية على سورية، وعبر التركيز الممنهج للإعلام الغربي على انخراط هؤلاء المسلمين باستهداف مسيحيي سورية وأقلياتها الدينية استطاع الغرب أن يحدث شرخاً كبيراً في الحاضنة المسيحية الغربية للإسلام، هذا الشرخ سوف يتم استثماره مستقبلاً للقضاء على أي طموح لمسلمي الغرب في أن يتحولوا إلى قوة سياسية قادرة على إحداث طفرة مؤسساتية في المشهد السياسي والاجتماعي القائم اليوم في أوروبا، وقد يمضي زمن طويل قبل أنْ ينجح مسلمي أوروبا في إقناع محيطهم بأنَّ الإرهاب الذي مارسته ثلة منهم في سورية لا يعبر عن الجوهر السمح للدين الإسلامي، خلال هذا الزمن ستثابر الدول الأوروبية على اتخاذ مزيد من الإجراءات للتضييق على مسلميها، وستستثمر ردود أفعال هؤلاء على إجراءات عزلهم من أجل التدليل على ما تسميه " طبيعتهم الإرهابية".
خوف الغرب من إمكانية عودة إرهابييه يشبه الخوف الذي يدعيه حفار القبور من احتمال وقوع جريمة إبادة جماعية، ربما يكون هذا الخوف حقيقياً عندما يصدر عن دولة مثل تونس، أما أن يصدر عن الدول الغربية و واشنطن فتلك مسألة فيها نظر، إذ أن َّ أغلب تلك الدول كانت فيما مضى إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس ليس لاتساعها فقط بل لأنّ الله تعالى ليس لديه أدنى ثقة بما يقوم به قادة الغرب و واشنطن في الظلام.
د. عصام تكروري