إن اكتشاف إيبلا في سوريا سدّ ثغرةً كبرى في التاريخ الحضاري الكبير للمنطقة برمتها .فقد كانت إيبلا في حوالي 2300 ق.م مركزاً لأهم دولة في – الشرق الأدنى – (على حد تعبير الأستاذ باولو ماتيه)
وقد كان لاكتشاف الأرشيف المركزي في القصر في إيبلا أهمية بالغة جداً للتاريخ فقد كانت إيبلا عاصمة لحضارة رفيعة ولمدنية راقية .
يقول الدكتور مورتغارت:
"لقد حققت وثائق إيبلا ثورة في معارفنا التاريخية عن الشرق الأدنى في الألف الثالثة قبل الميلاد, هذه الفترة التي شهدت بناء الأهرامات في مصر أو ما يسمى بعصر الملوك. فإلى جانب أكبر مصدرين للمعلومات التاريخية وهما مصر وبلاد الرافدين أصبحت سوريا بفضل اكتشافاتنا هذه المصدر الرئيسي الثالث للتاريخ الحضاري والسياسي في "الشرق الأدنى" ( تاريخ الشرق الأدنى , ص84)
ويقول الأستاذ باولو ماتيه:
" كانت إيبلا مركزاً لقوة سياسية كبيرة هيمنت على بلدان آسيا الأمامية بوسائل مختلفة ولفترة طويلة من الزمن , وذلك إما بالطرق المباشرة أي بتنصيب الولاة من الوجهاء المحليين كما كان الحال أكيداً بالنسبة لمدينة ماري وربما بالنسبة لمدينة جبيل أو عن طريق عقد التحالفات السياسية كما كان الأمر بالتأكيد مع مدينة آشور عاصمة الآشوريين في شمال الرافدين, هذه المدينة التي كانت بجميع الأحوال مرتبطةً مع إيبلا في معاهدة دولية وكانت إيبلا في هذه المعاهدة تحتل المكانة الممتازة والمفضّلة على آشور" (الدكتور عفيف بهنسي, وثائق إيبلا,ص28)
وقد كانت إيبلا تستمد قوتها السياسية من حيوية اقتصادها فتجار إيبلا كانوا يجوبون البلاد من الأناضول إلى فلسطين , ومن ساحل البحر المتوسط إلى الخليج العربي.
وجديرٌ بنا أن نذكر أن لغة أهالي إيبلا تعتبر أقدم لغة عربية قديمة وصلت إلينا مكتوبة حتى الآن وتتماثل هذه اللغة مع اللغة التي جرت العادة تسميتها بالكنعانية و بالأخص مع الأوغاريتية التي نملك عنها شواهد ترقى إلى 1200-1400 عام قبل الميلاد. فمثلاً نجد بين مفردات أهل إيبلا في الألف الثالث كلمات ذاتها ما تزال حية كما هي في العربية الحديثة مثل (كتب)و (ملك) و (يد) …….إلخ (عفيف بهنسي , وثائق من إيبلا,ص24)
و إذا نظرنا إلى الكلمات الواردة في أحد النصوص المكتشفة في وثائق إيبلا منذ الألف الثالث قبل الميلاد تبين لنا كيف أن الاختلاف بين اللهجات العربية السائدة اليوم يزيد كثيراً رغم كل وسائل الاتصال عن الاختلاف مع لهجة إيبلا القديمة. أمثلة:
من كيا؟ = من مثل إيا
اسماعيل = اسماعيل
حيره= منزله, بستانه. ما تزال مستخدمة في الساحل السوري إلى اليوم.
راعينا حدد= راعينا حدد
آدم ملك = رجل ملك
يد دامو= يد الرب دامو
البكر= الابن البكر
يدو = يد
أكلم= أكل
نفستم = نفس, حياة, روح
كما أن مجموعة الآباء العرب المقدسين في إيبلا التي ضمت جميع الآباء من كل أطراف الوطن العربي السوري لأكبر دليل على وحدة هذا الشعب , وبعده عن التعصب القبلي.
وهذه صورة عن بعض أولئك الآباء الممجّدين في "إيبلا" الذين ما ينفك الدارسون للأسف يعتبرونهم آلهةً حقيقيين جرياً على ما درج عليه غيرهم من قبلهم :
أداما: وهو آدم , تقدّس في سوريا كلها بما فيها منطقة الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب
عمو: وتعني أبو القبيلة في الهلال الخصيب وشبه الجزيرة.
حدد: في كل بقاع الهلال الخصيب وشبه الجزيرة.
آنو: (عانو, عانو, عين) في الهلال الخصيب كله حتى وادي النيل وفي شبه الجزيرة العرب. وما تزال كثير من القرى والجبال المسماة باسمه في مختلف المناطق.
إيل: (أل, عل, كرونو, قرون, أبو السنين, السيد العلي) في الوطن العربي كله.
دجن: في منطقة الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب.
إنكي: في منطقة الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب
بعل: في منطقة الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب.
إن هذا من شأنه أن ينسف كل أقوال مؤرخي الحقبة الاستعمارية ومن سار خلفهم حول الهجرات السامية وأزمان حدوثها, وتقسيم الشعب الواحد إلى شعوب متناحرة لا علاقة للواحد منها بالآخر والحضارة الواحدة إلى حضارات, واللغة الواحدة إلى لغات منفصلة ومستقلة, كما ينسف في الوقت نفسه تلك المساعي الدؤوبة للتركيز على بؤرة حضارية معينة وفصلها عما حولها , إذ دلّت المكتشفات على أن المنطقة برمتها إنما هي منطقة حضارية واحدة, يسكنها الشعب العربي السوري الذي يتكلم لغةً واحدة بلهجتها الشرقية والغربية والعرباء منذ آلاف السنين. وقد دحضت المكتشفات الحضارية كل ما يمكن أن يتصوره أو يبتدعه أولئك الحاقدون على تاريخ الأمة العربية , ونهضت بنفسها على الساحة لتتكلم عن نفسها دونما حاجةٍ لأية فرضيات أو تصورات وافدة من وراء حدود المنطقة لأغراض لم تعد تخفى على أحد.
.