·
الانتشار السوري الإغريقي في الغرب
إن كلمة (أرجو) بالجيم هي في القاموس السرياني تعني الحصان الكميت , الحصان الأحمر القانئ . و منها جاءت كلمة (أرجوانو) أي أرجوان الذي اشتهر به السوريون , و منهم الفينيقيون , صيداً , و استخراجاً , و صناعة , و صباغة , و ملابس ملوك . لهذا ينبغي التمييز بين هذه الكلمة و كلمة (أرقو) بالقاف التي سبق شرحها و تعني عظيم السلاحف . إن الحصان الكميت أو الأرجواني هو حصان بوسيدون رب البحارة الفينيقيين الشهير . و قد كانوا يصورونه ممتطياً سفينته ذات المقدمة المرتفعة بهيئة رقبة جواد قانئ و رأسه . و حين كانت السفن الفينيقية تتجمع في أحد الموانئ كان يمكن تمييزها بهذا اللون من بعيد .
ينقل لنا ول ديورانت هذا المشهد للسفن الفينيقية التي تجمعت في ميناء جزيرة صاموس بعد سقوط بابل في يد الفرس و انهيار الدولة السورية المركزية كما يلي :
( و كانت حاضرة جزيرة صاموس تقوم على ساحلها الجنوبي الشرقي . و كان الإنسان إذا ما دخل مرفأها الأمين , ماراً بالسفن الحمراء الذائعة الصيت التي يتألف منها أسطول الجزيرة , شاهد المدينة تقوم أمامه كأنها مشيدة من القرميد على سفح التل) .
إن اختيار هذا الاسم الرمز للرحلة إلى شواطئ البحر الأسود كان وحده دليلاً كافياً على أن الأمر كله من تدبير الفينيقيين .
أما الدليل الثاني فهو الشخصيات الرئيسية في الرحلة . إن نظرة واحدة متأملة إلى أبطال الرحلة الرئيسيين و هم : ياسون , و هرقل , و فيليو والد أخيل تكشف لنا الدور الفينيقي البارز المتمثل في جماعة قدموس في طيبة , المدعومين من (مينوس) الحفيد الثالث لأوروبا على عرش كنوسوس في كريت .
الدليل الثالث هو أن طروادة كانت منذ أن بناها السوريون إلى ذلك الوقت تتقاضى المكوس عند التقاء خط التجارة البري بالبحري , و تمثل نقطة رصد و مراقبة للتجارة السورية المهيمنة آنذاك . فكان أي عدوان عليها إبان قوة الدولة يعتبر من المستحيلات . إذ كان الجيش المركزي – كما يؤكد هنري فرانكفورت- يقوم بجولة سنوية اعتباراً من جبال أرمينيا إلى منطقة المضائق لحماية الثغور و خطوط التجارة منذ عهد سرجون الأكادي , ثم صار هذا العمل تقليداً اتبعه كل الملوك الذين خلفوه من بعده , و إن الصدام من قبل بحارة (الأرجو) مع ملك المدينة في ذلك الوقت كان يعني أمرين اثنين :
الأول هو تحقيق النزعة الفينيقية الدائمة إلى الانفلات من سطوة الدولة المركزية و التفرد بمغانم التجارة لصالح الفئات الأنانية الضيقة التي لا تتجاوز إطار المدينة , أو بعض المدن .
و الثاني هو أن الدولة المركزية السورية كانت في تلك الفترة تعاني من الضعف و التفكك . و ذاك كان هو الواقع فعلاً .
لنتعرف الآن إلى الشخصيات الرئيسية في الرحلة :
* ياسون :
ينقل لنا ديورانت عن المؤرخين اليونان أنه في حوالي عام 1245 ق . م . اغتصب فيلياس بن بوسيدون عرش آسيون ملك يولكو من أعمال طسّاليا . و أخفى أصدقاء الملك المخلوع ابنه الطفل ياسون . و شبّ هذا الطفل في الغابات حتى أصبح شاباً قوياً شجاعاً . و ظهر في يوم من الأيام في السوق يرتدي جلد فهد و يحمل من السلاح رمحين , و طالب بملك أبيه . و لكنه كان يبلغ من السذاجة مبلغه من القوة . و أقنعه فلياس أن يقوم بعمل شاق يكون ثمناً لعرشه , و كان هذا العمل الحصول على جرة الصوف الذهبي . فصنع ياسون السفينة العظيمة (أرجو) و دعا إلى صحبته في مغامرته أشجع الشجعان . فلبى الدعوة هرقل و معه حيلاس رفيقه المحبوب , و جاء معهما فيليوس والد أخيل , و ملاجر و آخرون …
إن اللقب (ياسون) يعني : المخبّأ , المخفي , كما تعني : الحاشد , الجامع , الحاقد . و هو من الفعل (أسن) في القاموس السرياني , و يعني : خبأ , أخفى , ستر , حشد , جمع , عبّأ , أعدّ , كتم حقده . و هذا اللقب يحكي قصته و حالته كالعادة في كل الألقاب السورية السريانية الأخرى .
و قد توفرت فيه الشروط المطلوبة للقيام بهذا الدور : فهو ساذج , يسهل إقناعه , و هو قوي شجاع , و قد تربى في الغابات , و بالتالي فهو وحيد و كأنما (مقطوع من شجرة) .
* هرقل :
بداية يجب التمييز بين هرقل هذا و هرقل أحد الأجداد الفينيقيين في صور العمانية , و الذي أقاموا له معبداً في صور على الساحل السوري حين قدومهم إليه في حوالي 2750 ق . م .
و حول هرقل هذا بطل قصتنا ينقل لنا ديورانت عن المؤرخين اليونان أنه كان بين أشراف طيبة رجل يسمى أمفتريون (= الكاهن , مقدم القرابين بالسريانية) , متزوج من امرأة فاتنة تدعى ألكامينا (حلقا مينا = بخت العشيرة , فأل العشيرة الحسن) . زارها زيوس مغتنماً غياب زوجها , فولدت منه ولداً . و ما أن علمت حيرا بالأمر حتى دسّت حيّتين لقتل الطفل في مهده . لكن الطفل أمسك كلاً من الحيتين بيد و خنقهما . و قد دعي هيراقوليس HERAKULES لأن حيرا أبغضته و أرادت هلاكه ( و الاسم هنا مكون من (حيرا قولي) و كلمة (قولي) في القاموس السرياني اسم الفاعل من (قلا) أي أبغض , آذى , أهلك , و ليس معناها كما يفترض ديورانت و يقول : أي وارث المجد من أبيه) … و لما كبر تزوج ميجارا ابنة قرييون الطيبي , و أراد أن يحيا حياة هادئة مستقرة , لكن حيرا سلطت عليه نوبة من الجنون فقتل كل أبنائه على غير علم منه … و انضم إلى ركاب السفينة (أرجو) .
واضح أن هرقل من أصل طيبي , أي من فينيقيي طيبة مدينة قدموس . و قد جمع الدماء الأرقوسية الفالاجية الساميّة عن طريق أبيه زيوس مع الدماء الفينيقية الحاميّة عن طريق أمه حلقامينا . و تزوج ميجارا بنت قرييون الطيبي . إنه , في المحصلة , فينيقي .
* فيليوس :
هو والد أخيل . و اسمه في الأصل السرياني (فحيلو) و يعني : الفحل , القوي , الشديد . و لقب ابنه (أخيل) يعني الشيء نفسه أيضاً . و قد مر معنا من ذي قبل كيف أن الأب فينيقي , و أوكل أمر تربية ابنه و تدريبه إلى الفينيقي العجوز .
و هكذا يتضح لنا كيف أن الأمر كله من تدبير الفينيقيين , الذين اغتنموا ضعف الدولة المركزية السورية في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد لأسباب داخلية بالإضافة إلى الضربات الزلزالية الكثيرة المدمرة في تلك الفترة و التي ضربت كريت و شرق المتوسط كله و منه أوغاريت و طروادة .
يقول ديورانت :
( و لما دخلت السفينة الهلسبنت (مضيق الدردنيل) اضطرت إلى الوقوف . و لعلها قد وقفت في وجهها قوة من طروادة , لأن هرقل ترك الحملة لينهب المدينة و يقتل ملكها الأوميدون و أبناءه كلهم عدا فريام …. و قامت طروادة الحصينة مرة أخرى (بعد الزلازل) , و بعد أن انتهبها هرقل لتعترض سبيل من يخاطرون باجتياز المضيق . لكن (الإغريق) لم ينسوا ما فعلوه من قبل , و عادوا من جديد يحاولون اجتيازه بمائة سفينة بدلاً من سفينة واحدة . و أهلك الآخيون أنفسهم في سهل إليون لانتزاع الهلسبونت) .
إنها سفن الفينيقيين , إذ لا أرقوس و لا إسبارطة أو طيبة كانت تملك مثل هذا العدد من السفن , بل هي لم تكن تملك السفن أصلاً .
و كانت حرب طروادة التي خلدها الشاعر (هومرو) المجهول في الملحمتين الشعريتين الإلياثا (إليادا) و الأوديسا .
و لما كانت القصة معروفة فإن جل ما يهمنا منها هنا تحديداً هو ما يؤكده لنا هيرودت لوجهة نظرنا حول التدبير الفينيقي ما بين كريت المينوية الفينيقية آنذاك و طيبة القدموسية الفينيقية , و استثمار تلك الروابط التي مررنا عليها , و استغلال ضعف الدولة المركزية السورية من أجل الاستئثار بتجارة البحر الأسود . هذه النزعة الأنانية الانفصالية المناوئة للدولة المركزية سوف تبلغ ذروة التعبير عن الذات إبان الغزو الفارسي فيما بعد .
و في الحلقات القادمة سيكون لنا وقفة أخرى مع النتائج التي ترتبت عن حرب طروادة التي دبرها الفينيقيون التجار ضد أبناء جلدتهم السوريين . كما سيكون لنا وقفة مطولة مع الشاعر (هومر) .
المصدر : تاريخ سوريا الحضاري القديم 2 . الدكتور #أحمد_داوود