نور مخدر
على مشارف ليلة الميلاد، تضج ساحة المدينة بأصوات الصغار والكبار، حيث يتحضر كل منهم على طريقته: الصغار يشترون زينة الشجرة والكبار هدايا الصغار. يقفون خلف زجاج المتاجر ويتأملون ذلك الشيخ الكريم وكيسه المحمّل بأحلام الطفولة، يكتبون على أوراق صغيرة أمانيهم ويعلّقوها زينةً على الشجرة المضيئة بمغارة العيد. آخرون، يحتفلون بتراتيل، شمعة ودعاء.
تحتفل الطوائف المسيحية في ليلة الرابع والعشرين من كانون الاول بولادة المسيح "يسوع" وهو أعظم الاعياد بعد عيد القيامة. هو كسائر الأعياد، له رمزيته وقدسيته، تقاليده وعاداته، وبالرغم من كثرة المحتفلين إلا أنّ قلة منا يدرك معانيه المضمرة في ممارساته المعلنة.
تاريخ العيد
منذ القدم، لم يكن هنالك ما يسمى بعيد الميلاد، كان المسيحيون يحتفلون فقط بذكرى موت المسيح وعيد القيامة. وفي القرن الرابع م.، بدأ الاحتفال الرسمي بعيد الميلاد، بعد أن أصدر الامبراطور قسطنطين مرسوم ميلانو الذي أعلن فيه أنّ ديانة الدولة هي المسيحية، وظهر هذا العيد في تاريخين مختلفين 25/12 (غربي) و7/1 (شرقي).
يعود هذا التاريخ الى احتفالات وثنية بعيد الشمس و بعيد النور، فمنذ عام 239 ق.م. احتفل اليونانيون بعيد النور وبميلاد الشمس. وبعد انتشار المسيحية، بدّلت الكنيسة هذه المعاني من معانٍ وثنية الى معانٍ مسيحية، وأخذت تحتفل بميلاد السيد المسيح بدل العيد الوثني أي "حقيقة الشمس التي لا تقهر والإله العظيم"، ومنذ عام 386، انتقلت الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد الى الشرق في الخامس والعشرين من شهر كانون الاول، وأصبحت الاحتفالات تعمّ في أرجاء العالم.
بابا نويل أو سانتا كلوز
لا تكتمل فرحة العيد دون تلك الشخصية المحببة على قلوب الجميع وهي بابا نويل أو سانتا كلوز، ينتظره الأطفال بشغف وحب، ليضفوا على ليلتهم الجمال والكرم، فمن هو بابا نويل؟ وما قصة ذلك العجوز الذي يملي على الميلاد فرحتنا؟ بالعودة الى التقاليد الجرمانية، يوضح التاريخ عن شخصية الإله THOR الذي كان ينتظره الاطفال في 25 كانون الاول كي يقدم لهم الهدايا بعد قراءة رسائلهم الموضوعة في جواربهم المعلقة، وتوقد المذابح مهللةً بمجيئه.
ومع انتشار الديانة المسيحية، تبدلت المفاهيم وأصبح بابا نويل القصة المستمدة من القديس نيقولاس الذي عاش في القرن الرابع ميلادي وكان مطران على "ميرا" الواقعة في "ليسيا". ولد هذا القديس في عائلة غنية جدًا، وكرس حياته بخدمة الفقراء. يعرف بحبه للأطفال وتمضية وقته في تسليتهم. يتناقل الأسلاف عبر الاجيال حكاية المطران نيقولاس: "كان في مدينة مورا عائلة فقيرة جداً لديها ثلاث فتيات، وفي ليلة من الليالي صعد هذا القديس الى سطح المنزل وأسقط أكياس كانت تحتوي على نقود، فسقطت في جوارب كانت الفتيات قد وضعتها لتنشيفها. وفي أثناء وجود القديس نيقولاس على السطح، شاهده والد الفتيات ودار حديث بينه وبين القديس، حيث طلب هذا القديس منه أن يكتم الموضوع، والمفاجأة كانت بعد يومين، عندما أصبحت البلدة جميعها تعرف ماذا فعل هذا القديس". وانطلاقاً من هذه الحكاية، ظهرت عادة وجود جوارب حمراء اللون لتتزين بها المنازل، وتخليدًا لحادثة للقديس نيقولاس.
ففي اللغة الفرنسية، تعني عبارة "بابا نويل" أب العيد، و حسب الروايات الفرنسية، بابا نويل هو شيخ ذو لحية بيضاء كالثلج ويرتدي ملابس حمراء اللون، يركب عربة تجرها غزلان ومن خلفها الهدايا ليتم توزيعها على الاولاد اثناء هبوطه من المداخن أو دخوله من النوافذ وشقوق الابواب. أما الصورة الحديثة لهذه الشخصية، فقد رسمها رسامٌ أميركي عام 1860 بعدما ولدت الفكرة على يد الشاعر الاميركي كلارك موريس الذي كتب عام 1823 قصيدة بعنوان "الليلة التي قبل عيد الميلاد" يصف فيها صورة الزائر المحبب في ليلة العيد، ومع الوقت انتشرت هذه الشخصية الفريدة في العديد من الدول وانطبعت في ذاكرتهم هذه الحاسة دون معرفة رمزيتها.
شجرة عيد الميلاد
من أروع تقاليد الميلاد، شجرة وسط المنزل، تتألق بأضواء الزينة وتنير سهرة العائلة، وتنتشر أغاني العيد في جو من الابتسامة والفرح، وتبدأ الحكايات عن الشجرة. في عهد الرومان، كانوا يحتفلون بهذا اليوم بطقس يدعى "الزحلي" نسبةً الى كوكب زحل إله الزراعة، حيث يزينون بيوتهم بالخضروات والأنوار، كما يتبادلون الهدايا ويعطون المال من أجل الازدهار والمعجنات من أجل السعادة والمصابيح لإنارة رحلة الانسان في حياته. والجزء الثاني من الحكاية، يكمل في اوروبا خلال القرن الخامس عشر بمنطقة "الاْلزاس" الفرنسية حيث تم اعتبارها "شجرة الحياة" الوارد ذكرها في سفر التكوين، وهي رمز للحياة و النور.
تم تزيين اول الاشجار بالتفاح الاحمر والورود واشرطة من القماش. أما اول شجرة ضخمة فقد اقيمت في القصر الملكي بإنكلترا سنة 1840ب.م. خلال عهد الملكة فيكتوريا، حسب ما ذكرت الوثيقة المحفوظة في ستراسبورغ عام 1605 م.، ومن بعدها اعتبرت جزءًا أساسيًا من الزينة. في حين ذكرت رواية اخرى حول شجرة العيد أنّ هذه الفكرة بدأت في ألمانيا خلال القرون الوسطى، حيث كانت عادة بعض القبائل الوثنية أن تقيم احتفالًا ضخمًا تقدم فيه ضحية من أبنائها إجلالاً للإله "نور" التي كانت تعبده. وعام 727 م أوفد اليهم البابا بونيفاسيوس مبشرًا، عندما شاهد تقليدهم، قام بقطع الشجرة ونقلها لأحد المنازل، ميبنًا لهم أنّ الاله هو اله السلام والرفق والمحبة الذي جاء ليخلصهم لا ليهلكهم. ولكن ما أذهل المبشر حينها ظهور شجرة صغيرة من جذور شجرة البلوط المقطوعة، ولذلك اتخذ القديس بونيفاسيوس شجرة الشربين كرمز للإيمان المسيحي. ولكن لم تكن هذه الأشجار توضع داخل البيوت إلا عند حلول القرن السادس عشر.
وبعد انتشار الشجرة كركنٍ أساسي من أركان العيد، أصبحت توضع قبل العيد بأيام وتبقى حتى 6 كانون الثاني يوم الغطاس، عيد الظهور الإلهي.
المغارة
لا تنته فرحة عيد الميلاد المجيد إلا بمغارة الطفل يسوع، هذه المغارة التي تنصب في ذكرى ميلاد المسيح. بالعودة إلى الكتاب المقدس، لا يوجد ذكر للمغارة، انما يوجد رسم لميلاد المسيح مع الرعاة والمجوس والرعيان، ويعود هذا الرسم للقرنين الثالث والرابع. أما فكرة المغارة فهي حديثة النشأة تعود للقديس فرنسيس الاسيزي. ففي عام 1223، أراد القديس فرنسيس تذكير الرعية بميلاد المسيح الفقير، فما كان منه إلّا الذهاب الى مغارة طبيعية بالقرب من اسيزي، وبنى فيها مذوداً كمذود بيت لحم، ووضع شخوص ترمز إلى الطفل يسوع، يوسف ومريم، الرعاة، المجوس، النجمة (هي العلامة التي أعطاها الملائكة للمجوس ليعرفوا مكان السيد المسيح)، البقرة، الحمار، الاغنام، والملائكة، ونثر على الأرض عشبًا يابسًا، بالإضافة لصنعها من ورق ملون بألوان صخرية. وفي ليلة العيد، وبعد قرع الجرس هرع الناس حاملين المشاعل باتجاه المغارة. وأقام القديس فرنسيس الصلاة بالقرب من المغارة، مبيناً محبة يسوع وحنانه للذين دفعاه ليولد فقيرًا من أجل العباد.
ومن ناحية أخرى، يذكر لوقا، الانجيل الوحيد الذي تحدث عن مكان ميلاد المسيح: "وصعد يوسف من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى بيت لحم مدينة داود، لأنه كان من بيت داود وعشيرته، ليكتب مع مريم حبيبته، وكانت حبلى، وبينما هما في بيت لحم جاء وقتها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعنه في مذود، لأنه كان لا محل لهما في الفندق" (لوقا 2: 4-7). لم يذكر لوقا المغارة، بل اعتبر أنّ إحدى المغاور التي كانت تستعمل كإسطبل حيوانات هي مكان ولادة المسيح، وعلى أساسه شيدت كنيسة المهد في بيت لحم. ويبقى الهدف الاساسي من المغارة هي اجتماع العائلة حولها للصلاة في زمن العيد.
في ختام مراسيم الاحتفال، يبقى عيد الميلاد أحد الشعائر التي تنفرد بها الديانة المسيحية عن غيرها من الديانات. وتتجسد رمزيتها بأجواء من العبادة والسعادة، وتتشارك معها الديانات الاخرى .