بقلم: نارام سرجون
لاندري ماذا تقول الضحايا وهي على بعد ثوان من الموت .. لأن خواطرها تتزاحم وتتنافس ولاتفوز منها الا الخاطرة الأجمل والأصدق والأقوى والمضرجة بالتوق والدمع .. وأحسب أن اللحظات الأخيرات للحياة هي التي يقول فيها الانسان أجمل مالديه وأخطر مالديه وأحصف مالديه .. وكل خاطرة تندفع الى ساحات العقل في الثواني الأخيرة من العمر ترى أنها الأولى بأن تكون الوصية الأخيرة والخلاصة .. وتريد أن يكون لها مكان الخاتمة .. وهذه اللحظات ربما هي أثرى لحظات الحياة وتكون على قصرها أطولها مناجاة مع الوجود والمجهول ومراجعة لكل مافات .. وأغزرها رغبات بالمستحيلات ورؤية للرؤى التي احتجبت ثم ظهرت على غير انتظار ..
في اللحظات الأخيرة للحياة يتذكر الانسان ربما أشخاصا أحبهم وغافلته الحياة ولم يقل لهم وداعا ولم يعانقهم العناق الأخير .. ويتذكر فيها أشخاصا تنازع معهم وتعاتب معهم .. ويتمنى أن يطير اليهم لثوان يصافحهم معتذرا أو مسامحا وقد عفا عن الخاطئين وصار قلبه أنقى من قلب نبي .. كم تبدو الأعمار بخيلة في تلك اللحظات فلاتبيعك الثانية الا بثمن السنة والدقيقة الا بثمن قرن .. فتحاسبك كما لو كانت الثانية تباع بقنطار ذهب ورطل من الماس وأنت المفلس من كل مال .. في آخر لحظة ..
كم استوقفتني وحيرتني نظرات الشهداء السوريين الذين كانوا ينظرون في كاميرات القتلة قبل أن يموتوا ذبحا أو حرقا أو رميا بالرصاص أو سحقا .. وكم تمنيت أن أغوص في مياه تلك العيون المودعة بحثا عن الخواطر المتزاحمة .. والأمنيات الأخيرة .. وعن الخاطرة الأخيرة .. والخاطرة الأثيرة التي فيها قناطير الذهب المفقود .. لم تكن اية نظرة رأيتها في عين جندي تبحث عن شفقة أو رحمة أو ندم .. بل كانت تبحث عبر نافذة العدسة عن أهل ومحبين وأصدقاء وعشاق ورفاق عرفوها وبادلوها البرق والبريق يوما .. ليغرفوا منها الكلام الأخير والأثير .. وليبحثوا في مناجم العيون عن الوصايا والذكريات وعن الصفح والغفران بلا حدود لكل من تعاتبت معه وتجادلت .. ليمسك المعاتبون عتابهم والمجادلون جدالهم ..
ان في تلك العيون مالا يفهمه الدواعش ولا أئمة الجهاد .. ولا أئمة النكاح .. ولا أئمة الدنيا الأنانيون وأصحاب الفتاوى المتوحشة .. لا القرضاوي ولا محمد بن عبد الوهاب .. ولا المهرج فيصل القاسم وقطيعه من ثوار الائتلاف ..ثورا ثورا .. وبقرة بقرة .. ولازهران علوش ولابغاله ولانوقه .. بغلا بغلا ..وناقة ناقة ..
ماذا كان أي جندي ذبيح أو مقبل على الحرق يريد أن يقول لايملك أحد في الدنيا ترجمة له الا أهله ومن عرفه لأنه في نظراته كان لايتحدث مع أحد منا .. بل كان يتحدث مع خاصة خاصته ومع أمه وأخته وحبيبته وصديقه ..
معاذ الكساسبة الطيار الأردني لم يكن يقول شيئا آخر مختلفا لكنه لاشك كان مليئا بالأسئلة الحيرى التي أسرته ايضا كما أسره الدواعش .. وكان مسكونا بفضول لايرحم لمعرفة الأجوبة الحاسمة لاسئلته التي أسرته قبل أن يموت ..
كان يسأل عن هذه الأمة التي قاتلت السوريين أربع سنوات دون رحمة ودون مبرر الا حب الجريمة .. وحب الكذب .. وحب النفاق .. والمال ..
كان يسأل: كيف كنا نتتجاهل ذبح السوريين وحرقهم ؟؟ وكيف قبلنا أن نسمي من يحيطون بي الآن ثوارا طوال أربع سنوات؟؟ انهم نفس الثوار الذين قتلوا نضال جنود في الأيام الأولى .. وارتكبوا مجزرة جسر الشغور .. وملؤوا شوارع حمص وبابا عمرو بالدم والأشلاء .. ونسفوا شوراع دمشق وحلب .. وقتلوا سارية حسون في الأسابيع الأولى لما سميناه الثورة السورية .. وهم الذين قتلوا الطفل ساري ساعود .. انهم هم الذين أكلوا قلب جندي سوري كالوحوش امام الكاميرات كما ستأكلني هذه النار الجائعة لجسدي .. وكنا نكذب ونقول بأن الملائكة تنزل من السماء لتقاتل مع هذه الحيوانات الضارية آكلة القلوب .. هل الملائكة هي التي تحيط بي الآن تتشفى باحتراق جسدي ياأمي؟؟ أهكذا تبدو الملائكة التي طالما حدثتني عنها ياأبي؟؟؟؟
ربما كان الطيار الأردني تواقا يتحرق لمعرفة سر كبير لم يخطر على باله ان يفتش عنه قبل اليوم .. لكنه اليوم سؤال لايهدأ مثل قلبه الملتاع .. سؤاله يقول:
كيف أن كل من يسقط أسيرا لدى داعش يموت ويرتدي ثياب الاعدام البرتقالية .. السوري واللبناني والامريكي والانكليزي والياباني والفرنسي والاردني وأي عربي .. ولكن وحده التركي فقط أسرته داعش وكرمته ولم تلتقط له صورة واحدة مهينة ولم تخلع عليه الزي البرتقالي .. ولم تخدشه .. وبعذ أيام حملته معززا مكرما الى بيت اردوغان؟؟ .. خمسون تركيا وصلوا الى تركيا من سجون داعش بثيابهم النظيفة وأحذيتهم اللماعة وابتساماتهم وذقونهم الحليقة .. خمسون تركيا كان يمكن أن يكونوا كل يوم مسرحا للعالم ومسلسلا تركيا مملا ليس فيه مهند بل راية محمد .. لماذا تركيا وحدها ياأجلاء المسلمين لايهدم لها داعش قبرا ولاضريحا في العراق وسورية وأنتم لاتزالون تقولون ان داعش من صنع النظام السوري؟؟ .. ولماذا لاتقطر من تركيا قطرة دم واحدة على يد الدواعش وهي التي تقف على كتف تركيا؟؟ .. وكلما دنت السكين من عنق تركيا انزلقت كما انزلقت سكين ابراهيم على عنق اسماعيل قبل أن يفتديه الله بكبش؟؟ هل يفتدي الله تركيا بأكباش عربية دوما ياأمي؟ ولماذا يصر البغدادي على أن يقسمنا الى ولايات وينسى دائما أهم ولايتين .. ولاية تركيا .. وولاية فلسطين..؟؟هل البغدادي ضعيف في علم الجغرافيا أم أننا أغبياء في فهم الجغرافيا؟؟ آه ياأبي لو أجبتني قبل أموت الآن عن هذا السؤال الذي سأحمله معي الى السماء دون أن يهدأ؟؟
وعندما كانت النار تتسلق جسد الطيار وتذيبه بشراهة كان سؤال آخر يواجه النيران وينفخ ليبعدها لأنه يريد ان يلاقي الجواب قبل أن تصله النار.. كان الطيار يسأل:
ماذا لو كان عند "ابي جهل" عقل برنار هنري ليفي الخبيث في مواجهته مع النبي؟؟ وماذا لو كان أبو جهل وأبو سفيان بفطنة المخابرات الاسرائيلية هل كانا تجشما عناء مواجهة النبي والتصدي لدعوته أم كانا تعلما من أردوغان فن صناعة الدواعش ليكره الناس الأنبياء جميعا؟ .. ماذا يريد ابو جهل أفظع من داعش لترفع راية النبي وتذبح وتحرق باسمها فيعود المهاجرون الى مكة تائبين ويعتذر منه الأنصار على استقبال نبي له جنود متوحشون مثل داعش؟ هل اليوم هو غزوة أحد الأخيرة لابي جهل الذي استعان ببرنار هنري ليفي؟
واما السؤال الأخير الذي ابتلعته النار وهو لايزال على شفاه الطيار قبل أن يغامر السؤال بمغادرتها لمنازلة النار فهو:
أما آن لنا أن نستيقظ ياأبتاه ونلعن ذوي اللحى المنافقين الكذابين .. أما آن لنا ياأبتاه أن نقول للملك ان الهلال الشيعي كان كذبتك الكبيرة .. وكان فتنتك الكبيرة .. وهي التي أشعلت النار في هلال جسدي ياابن اليهودية؟؟
أخيرا..ومع تصاعد الدخان من جلد الضحية المحترق .. تصعد مع الدخان لعنة على هذه الأمة لاتقدر النار ان تمنعها من التصاعد .. وتقول اللعنة:
ملعون من يطهو الدم في تنّور الكذب أيها المؤمنون .. وملعون من يبيع النار والجمر فوق سطح الشمس وأهل بيته يسكنون في بيوت الثلج ..
وملعون من يصنع النبيذ والجنة من بول البعير .. وملعون من يرضع الثورة من ثدي أميرة أو أمير .. ويفصل الحلال والحرام والايمان من فتوى بارضاع الكبير .. وملعون من يصلي على سجاجيد الدم .. ومن يبني ايمانه من آلام السبايا واليتامى والأيامى والثكالى ..
ملعون من يقنع الناس أنه يخمد الشمس اذا ماسكب عليها كأس ماء .. وملعون من يصنع من شيوخ المال أنبياء فوق النبي .. وملعون من يبارك الفتنة بين الهلال والهلال .. وملعون من يسلم أمره لملوك النفط .. وملعون من يصنع من اليهودي ملكا هاشميا .. وملعون من ينادي بالسلجوقي التركي خليفة للنبي العربي ..
ملعونة هذه الأمة التي تسلم امرها لشيخ يسقي صلاته بالنفط وصيامه بالنكاح ويصلي على أكداس المال .. ملعونة هذه الأمة التي تتبع القرضاوي والعرعور والعريفي وكل الاسلاميين الجدد ..
وملعونة هذه الأمة التي تحترق دون تتوجع ودون أن تندم .. ودون أن تشم رائحة جلدها ولحمها ولحم ابنائها وقلبها وقلوب ابنائها وحرائق روحها وارواح ابنائها .. وملعونة هذه الأمة التي تشعل النار في ثياب نبيها وجسده وقرآنه ..وتبكي مقلته حرقة عليها ..