
كنت أحلم كيف كانوا يتسامرون، وكيف كانوا يحلمون، بحاضرهم وبمستقبلهم، وكنت أنام وحكايا جدتي تستيقظ من خلال الأحلام، فأتخيل نفسي جالساً على الدرجات نفسها، حتى كبرت قليلا وأصبحت – عندما أمرّ مع أترابي في الساحة غير البعيدة عن منزلي – نجلس على الدرج ونتسامر، دون أن يعرف أصدقائي ماذا تعني هذه الجلسة لي من معانٍ.
بعد سنوات طويلة، أصبحت ساحة فرحات على حدود الصراع، وهجرها سكانها بعد عشرات القذائف التي طالتها وأصابت المطرانيتين بإصابات أدت الى تهديم سقف كنيسة الموارنة، وتحطيم وحرق المطرانيتين والدور المحيطة.
اليوم، أتردد مع مجموعة من العائلات الى كنيسة القديسة تيريزيا في السريان الجديدة بحلب، نجلس في ساحتها الداخلية والصغار والمراهقين من كلا الجنسين يلعبون ويجلسون على درج الكنيسة، يكررون مراهقتي.
أجلس على الدرج مُشبعاً أحلام طفولتي ومراهقتي وحكايا جدتي، وأتطلع الى الأطفال والمراهقين والشباب، أي مستقبل ينتظرون، وكل أسبوع تغادرنا عائلات الى بلدان شتّى، كل أسبوع نسأل نفس السؤال، من سافر هذه الأيام؟
زادت معرفتي بالعائلات فزاد ألمي لفراقهم.
لكني أعذرهم، وأتفهمهم…
أتفهم لماذا لن يعودوا، على عكس ما يُطبل ويزمر الكثير عن العودة..
أتفهم عدم إستطاعتكم أن تتحملوا الكثير من الضغوط النفسية والمادية…
أتفهم الخوف من المستقبل لكم ولأولادكم..
أتفهم عدم تحملكم لكذب بعض المسؤولين السياسيين في وعودهم البراقة….
أتفهم خوفكم من الأحداث والجنون الذي يقوده البعض…
أتفهم قرفكم من بعض مسؤوليكم الروحيين الذين ما صنعوا شيئاً لكم أيام الرخاء تساعدكم على البقاء، وهم اليوم يطالبوكم بالبقاء تحت مسميات شتى، بدءا من الوطنية وانتهاءً بالتشبث بأرض المسيحية والأجداد، ولكنكم تعرفون أنهم يدافعون عن بقائهم وخوفهم من أن يصبحوا خيال مآتة ينطرون أرضاً لوحدهم.
أتفهم أن الغلاء طحنكم…
وأن فقدان مقومات الحياة الدنيا قد أرهقكم…
وأن الخوف من كونكم حطباً لأتون هذه الحرائق …. أبعدكم
إذهبوا …. وأنا أعرفُ أنكم لن تعودوا.
إرحلوا …. ولا تلتفتوا إلينا.
ابنوا مستقبلكم بعيداً عن الكذب والغش والخداع من المسؤولين السياسيين والروحيين وحتى الرياضيين.
ولكن … لا تنسوا حليب هذه الأرض ولا طرقاتها ولا أرصفتها ولا طيبتها… فانشروا طيبتها من خلالكم
وكونوا سفراء طيبة أرضها في مغترباتكم.
وعلّموا أولادكم أن لهم أهلاً بقوا لأنهم لم يستطيعوا الرحيل…
ولأن درج كنيستهم يشدهم اليه
اللهم اشهد اني بلغت