في سهرة امتحانية ، البارحة ، قمت بتسميع الدروس لابني في مادة الاجتماعيات للصف الثاني ، وقد تنبهت لعنواني درسين اثنين هما :
الجلاء: ويتحدث عن جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا ، تعريفه ومضامينه، تاريخه ومناسبته
والثاني : السياحة ، تعريفها ، واستعراض لأسماء بعض المناطق السياحية في سوريا من قلاع ومدرجات ومدن قديمة من الرقة ودرعا واللاذقية وحلب وحمص وحماه.
وبعد أن أنهيت له التسميع ، أخذتني ذاكرة (أمسية بلا كهرباء) إلى سنوات خلت ، أيام الجامعة..
أيام ما كان يدرس في الجامعات السورية أبناء السوريين المقيمين في الخليج لأسباب متعددة : التكلفة القليلة للتعليم ، جودة التعليم السوري ، ضعف الوافدين في اللغة الأجنبية ، … وأسباب كثيرة أخرى بعضها ذو مضامين وطنية بحتة
طبعا ، صحيح أنهم كانوا يعيشون حياتهم في سوريا كما يرغبون ويشتهون ويتأملون في كثير من جوانب الحياة ، لكنهم كثيرا ما كانوا يتحدثون عن ضعف التقنيات وعن الروتين وعن بطء التطور في البلاد ،وكان بعضهم يتحدث عن الديمقراطية والحريات
الديمقراطية والحريات ، نعم ، وبكل تأكيد
فليس لديهم متنفس إلا الإقامة في سوريا ، فالمال متوفر ، والنشاط متوفر ، ولا يوجد ضير من ممارسة الحياة ثقافيا أو سياسيا أو حتى وجدانيا وعاطفيا وتعطش للانفتاح في ظل البحبوحة الموجودة في الجيوب ، مضافا إليها ممارسات كانت رواسبها ما زالت باقية في تسعينيات القرن المنصرم و تعيق التنفس الثقافي أو السياسي
لم يكن مستغربا ذلك عن فئة الشباب بشكل عام ، ولا عن هؤلاء بشكل خاص فهذا حق
وكانوا كثيرا ما يخرجون بالسباب على الملك الفلاني والأمير الفلاني والرئيس الفلاني وعن المسؤول الفلاني ، وأول ما يبدءون به بالسباب والشتائم والاتهامات والحديث عن المؤامرات هو ملك البلاد التي يقطنوها أصلا أو الأمير حتى يصلون إلى اصغر مسؤول في الجامعة سواء لعرقلته أمسية شعرية أو لتدخله في نص مسرحي أو (لقفشه ) احدهم في إحدى الزوايا مع فتاة وقد عاثت حمرة شفاهها بوجهه ، وعاثت يديه بثيابها، …
المدهش في الأمر أني ، وبصراحة ، وبكل سذاجة ، توقعت من الشلّة التي رافقتها لبعض الوقت أن تكون نواة التغيير الجذري والشامل في البلاد التي يقطنها أهلهم ، فبعضهم ولد وترعرع ، وعاد بعد الجامعة ليعمل ويتزوج ويعيش هناك
ومرت الأيام
وتتالت الإحداث
وظهرت الفضائيات وظهر "الفيسبوك"، و "التويتر"، و و و …
وكانوا حقيقة نواة للتغيير الجذري
ولكن ، أين ، وبأي لبوس
كانوا نواة للتغيير الجذري في سوريا ، وليس في البلاد التي يقطنوها بكل التزام بالقوانين المرعية وبالأنظمة الاجتماعية وبالشرائع الدينية
كانوا نواة للتغيير الجذري في سوريا ، بأشكال وألوان مختلفة
فالبعض بلبوس سياسي يساري بحت متوافق مع لبوس تيار ديني حاد.
وآخر بلبوس علماني حاد متوافق مع تيار ديني متطرف ،
وآخر بلبوس سياسي معتدل متوافق مع تيار عرقي انفصالي
وآخر بلبوس استثماري اقتصادي متوافق مع النظرة الأمريكية للمنطقة "بيزنس ايز بيزنس ، بييس ويز اسراايل " "business is business , Peace with Israel"
وآخر ، وآخر
لكنهم جميعا ورغم كل اختلافاتهم البنيوية المتأصلة يتفقون في أمر واحد :
ينشدون التغيير ومن بعيد ، ينشدونه لتكون سوريا ملهاهم السياسي أو الثقافي أو الديني أو الاجتماعي أو….
ملهىً حقيقي لا لون ولا طعم ولا رائحة ، ولا جهد ولا تضحية ، سوى الرغبة في العيش بحرية والتمتع بكامل مقدراتهم المادية والفكرية والدينية والمعارفية (معرفة مسؤول ) بقصد السياحة للسياحة أو السياحة للاستثمار في البشر والحجر ،أو التمتع بمناظر الطبيعة الخلابة للاستجمام أو للاستثمار في الاستجمام روحا وجمالا ورونق
ولأني حاد بشكل لا يمكن لي أن أجد بلدي ملها لأي أمر مهما كان إنسانيا أو حضاريا ، أنهيت أمسيتي بالقول ختاما :
إن بناء اقتصاد وطن عمره سبعة آلاف عام على سياحة هؤلاء المذكورين أعلاه فقط يستلزم بناء نظام سياسي مطاط يتسع في مستوعبه أزلام ممالك ،وآراء ممالك ، ومصالح ممالك لها حق المرور في التاريخ دون اثر .
وانه وليس من باب المصادفة بمكان أن يكون امتحان مادة الاجتماعيات للصف الثاني الابتدائي في سوريا يتضمن درسين أساسين : الجلاء ، و السياحة
بقلم المهندس سائر مقصود