في شوارع بلغراد، يصلّي اللاجئ العاشق ألف مرّة من دون تذمر. في المجاز، هناك رأيت «الله وملائكته يصلّون» و«يسلّمون تسليماً».
في شوارع بلغراد لا يتوهّل اللاجئ عابر الحدود ـ حين يمرّ في رأسه شريط رحلة المرور المرعبة بين اليونان ومقدونيا ـ يمشي مطمئناً كأنما ولدته أمه توّاً، مطهّراً من إثم الحياة، متحرّراً من عقدة الآذان الذي سُكب في أذنه عمداً عند اللثغة الأولى. لم يعد متوجّساً من إرث أبيه ثقيل الوصايا. اكتشف متأخراً أن قصة الملكين المتربّعين على كتفه حقّ يراد به التخويف.
في شوارع بلغراد وحدها طقوس العبادة مختلفة تماماً، فهي من يُسر ويُسر. لا كما لقنّنا آباؤنا: إياك وإياك وإياك، تذكر أن هناك «نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شِداد».
يا الله كم تعبر في شوارع بلغراد العامرة على مدار الساعة، من ربات الجمّال، آلهة العشق، آلهة العطر، آلهة الجنون! لا بدّ أن الله مسح بيده الطولى على وجه هذه المدينة ليشقي من هجروا أوطانهم بفعل الحرب.
في شوارعها رأيت المؤمن والمسلم والملحد يصلّون جمعاً وفرادة. لا فرق بين اللاجئ العاشق المثكول في وطنه والسائح القادم من طقس الفراق إلا بالتوق لم فارقهم.
في الشارع المكتظ بآلهات الجمال أمام محطة القطار، منتصف بلغراد، نسي «علي الحسن» مرافقي، «سنّيته» المتخمة بالتسابيح في المكان ذاته الذي تركت فيه عن سابق قناعة «شيعيّتي» لينظم إليّ عن كامل وعي وإدراك.
قال: «مدينة العلم عليّ بابها». ثم هزّ رأسه مشحوناً «أصابت امرأة وأخطأ عمر». كان هذا من خارج نصّ الحكاية، لأنه يعلم علم اليقين. «إِنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً».
هناك في الشارع العريض ذاته نادى منادٍ في الخواء الطلق: «أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل… أطلق لها السيف وليشهد لها زحل».
لا أدري ما المناسبة، لكننا وقفنا متكاتفَين متناسقَين، لم ندع بيننا فرجة يعبر منها شيطان الغواية، لا خوفاً، إنما كي لا يفسد في الصلاة دعوة رضيّة».
كبّرتُ ملء صدري وحواسي:
«الله أكثر عشقاً…
الله أكظم غيضاً…».
في شوارع بلغراد لا يصلّي المؤمن اللاجئ ركوعاً أو سجوداً، لا انتقاصاً من الصلاة، بل يعرف أن للصلاة جوازاتها ورخصتها، و«أنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه». لذا يصلّي العاشق اللاجئ وقوفاً.
فالآلهة في بلغراد تمشي في الشوارع هوناً وإذا خاطبها اللاجئ المؤمن ردّت سلاماً…
هنا لا وقت إلا للعبادة.
أمام محطة قطارات بلغراد أدّيت ألف صلاة وصلاة، فكلّما كنت أغرق متوجّعاً بالدعاء، يؤمنني «علي الحسن»: «يا ربّ آلهات المنفى!».
ـ آمين.
ـ يا رب آلهات الوجوه الصبوحة.
ـ آمين.
ـ يا ربّ آلهات الجمال، الفارعات، الدارعات، الرافعات، الخافضات، العاطرات، الباسمات، الساكبات، فاقعات الصدور.
ـ آمين… آمين.
وأنا أصلّي لآله عابر في شوارع بلغراد، حيث كان «»علي الحسن» يؤمنني.
سمعت في قلبي ورأيت في أذني، ملحداً من بلاد اللاتين يكسر «ريتم» قناعته التي اختارها من دون أكراه، يتأمّم بي، وحين بلغت من الدعاء ذوباه، غبّ ملء عيونه جرعة حُسن من وجه آلهة عابرة صارخاً: في وجه «علي الحسن» مرافقي: «مدد يا علي مدد!».
طلال مرتضى ـ النمسا