حدثني الفرات….
دير العتيق جرح لا يندمل
_دير الزور عروس الصحراء وجوهرة الفرات الثمينة ،ستبقى على مرّ الزمان أنشودة تغنى ، ووحياً لإلهام الشعراء والأدباء والمفكرين والفنانين وقبلة للسائحين .حباها الله بنهر عظيم خالد كان وما زال رمز الخير والعطاء ، وقد احتضنت ضفتاه تراث الأباء والأجداد . عاشت سيدة الحواضر والبوادي ، وكانت مسرحاً لصراع الجبابرة وبقيت شامخة تتحدى الأنواء وصروف الزمان وتهدي الخير إلى كل مكان .
اقتلع من قلب المدينة أثراً تاريخياً يعشقه أبناء الدير وأخص بالذكر كبار السن الذين تنفسوا مولدهم به ، وحمل ذكريات طفولتهم في أزقته الضيقة ، وبيوتهم التي كانت تربض على تل أثري محاذياً لنهر الفرات . معظم أبناؤنا الآن لا يعرفونه إلا من خلال الصور وهو ( دير العتيق) الذي يقع على تل ترابي على ضفة نهر الفرات اليمنى شماله نهر الفرات وجنوبه سوق الصاغة ، وغرباً الطريق المنحدر من جامع الحميدي إلى النهر ، ومن الشرق شارع النهرين وجامع هزاع .
كان يقطنه أبناء المدينة منذ ثلاثمائة عاماً تقريباً . بيوته مبنية من الطين والحجارة السهلة لم تكن أبنية وفق نظام معماري ينتسب إليها كالروماني والأسلامي و…..و…
وفيما ذكر معاصروه كان له بوابة تغلق ليلاً بعد صلاة العشاء .ومنذ أكثر من مئة عام خرج بعض أهلي دير العتيق بعد أن ضاق بهم المكان وشيدوا بيوتاً خارج التل التي بنيت من الحجارة الكلسية قد كتب على أبوابها تاريخ بنائها ….
كان جميع القاطنين فوق هذا التل أسرة واحدة رغم أنهم من عشائر مختلفة وفيه دربات (حارات) كثيرة نسبت إلى قاطنيها مثل ( دربة السادة ، دربة الخرشان ، دربة المعامرة ، دربة البو خريص ، دربة الشلاهمة ….. والدرب الطويل الممتد من سوق الصياغ إلى مشفى بدر الدين عبود ..ودربة الحمام نسبة إلى أول حمام في دير الزور صاحبه الفاضل (فرحان الفياض) ….).
أول هدم طال دير العتيق في زمن (نور الله ) محافظ دير الزور عام ١٩٤٩ . وقد هدم الجزء الشمالي الغربي منه .
وقد رثاه شاعر الفرات الكبير (محمد الفراتي) الذي عاش فيه ويعرف كل حواريه وأزقته . قائلاً :
طمست آثار أسلافي بلا سبب
فالله يطمس منك الروح والجسدا
هدمت منها قصوراً جد عامرة
للفخر شيدت ولم ترهب بها أحدا
تشكو إلى الله جدران ومئذنة
كم من تقي على أحواضها صعدا
فدير تغلب لم تترك بساحته
معاول الهدم لا سقفاً ولا عمدا
إني لأستصرخ التاريخ يلعن من
بالظلم آثاراً أضحت به بددا
وبقي الدير بعد الهدم ما يزيد عن الخمسة عشر عاماً على وضعه إلا أن جاء أسعد صقر محافظ دير الزور آنذاك عام ١٩٦٩ الذي أزال بقراره التاريخي التل والأبنية المقامة عليه الذي عوض مالكيه مبالغ تراوحت بين (٢٠٠ إلى ٢٠٠٠ ل.س ) .
وحسب الرواة الذين عاصروا الهدم أنه ظهرت تحت التل آثاراً لأبنية وجدران تعود لأزمنة سابقة .
كثير من سكان دير العتيق مات قهراً وحزناً على هذا القرار الذي ترك الأثر العميق في النفوس لهذا المعلم التاريخي الذي لو قدر له البقاء لكان قبلة للسائحين … وقد آثار هذا لهدم حفيظة حتى النساء فأنشدت إحداهن :
ياريت هداد البيوت هو وولده يموت
ياريت هداد الطرح هو وحريمه ينفضح
وأختم بأبيات لشاعر الفرات محمد الفراتي من قصيدة (حديث المحافل ) يرثي حال دير العتيق وما آل إليه :
مررت على الدير القديم فراعني
به زجل الأحجار تحت المعاول
سطوت على آثار قومي فرعتني
ونلت ولم أرهب محز المفاصل
أتتلفها شلت يمينك …خلها
لمعتبر أو زائر أو مسائل
ما يحز بالنفس كان هذا المعلم التاريخي الهوية الشخصية لمدينة دير الزور ، وكان يحتفظ في جوفه لحضارات تراكمت لتشكل بعد ذلك هذا التل ، لو تم اكتشافها والتنقيب عنها لتغير الوجه التاريخي والحضاري لمدينة دير الزور