.أوروبــــــــــــــــــــــــــــا إلــــــــــــــــــــى أيـــــــــــــــــــــــــــن ؟………..
……….هـــل يعيــش الغــرب بجنــاحيه شــرق الأطلــسي وغــربه مأزقـاً ؟………..
………..مستــقبل أوروبا ومستـــقبل علاقتـــها مع أمريــكا ، ومع الشـرق ؟………..
المحامي محمد محسن
انهيار الامبراطوريات لا يساقط دفعة واحدة، بل لابد من أن تسبقه مقدمات ومؤشرات تدل عليه، فما هو واقع ومستقبل الدول الأوربية ؟، ومن هي الجهة التي ضيقت المجالات الحيوية عليها ؟، فمن غير المقر من قبل السياسيين الأوروبيين، أن من عمل على تقليص دور أوروبا وتقليم أظافرها على المدى الطويل، ليس الاتحاد السوفييتي السابق ولا روسيا الحالية، كما هو متداول .
.
بل من قام بذلك ولا يزال هي حليفتها التاريخية أمريكا، الذي يمتد استغلالها لأوروبا إلى تاريخ الحرب العالمية الثانية، التي ظهرت فيها أمريكا بدور المخلص والمنقذ لأوروبا، في الوقت الذي كانت فيه تستثمر أوروبا أثناء الحرب كتاجر محتكر، وبعد الحرب من خلال مشروع مارشال الذي دخل تحت اسم ( إعمار ما هدمته الحرب )، وإذا هو في حقيقة الأمر الطريق الأمثل للسيطرة على أوروبا سياسياً ـــ اقتصادياً، والثابت تاريخياً أن أمريكا كدست ثروات هائلة على حساب أوروبا، بسبب تلك الحرب المجنونة، من خلال تزويد الحلفاء بالأسلحة والمواد التموينية، وجميع الحاجيات الضرورية التي تحتاجها كل من فرنسا وبريطانيا في أثناء الحرب، لمواجهة دول المحور ( ألمانيا هتلر، وايطاليا موسوليني ) .
.
حتى أن أمريكا لم تبادر إلى الانخراط في الحرب إلا في الهزيع الأخير منها، رغم توسلات تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في حينه، وأما نزول الجيش الأمريكي على ساحل ( النورمندي) الذي يحتفل بهذه المناسبة كل عام، للتأكيد على أن أمريكا هي المخلص، هذا الجيش الذي انخرط في الحرب، لم تكن غايته الأساسية نصرة حلفائه، بل لملاقاة الاتحاد السوفييتي الذي كان قد انتقل من الدفاع إلى الهجوم ضد ألمانيا، وحقق انتصارات بينة تكاد تكون حاسمة، ولتمنعه من أن يكسب قصب السبق في احتلال ألمانيا، ويظهر بمظهر الدولة المنقذة لأوروبا، عندها قد يعمم النظام الاشتراكي في كل أوروبا، وهذا يهدد التمدد الأمريكي ويعزلها في ما وراء المحيط، عندها بادرت أمريكا إلى الانخراط في الحرب ، وحققت مع حليفتيها انتصارات سريعة على الجيش الألماني المنهك، وأسرعت في تقدمها، لتظهر كما قلنا بمظهر المخلص، ولتتقاسم النصر مع الاتحاد السوفييتي بعد أن وصل الجيش الأحمر إلى ظاهر برلين، وهكذا تم لها الأمر فتقاسمت أمريكا برلين مع الاتحاد السوفييتي حتى عام / 1989 / حيث سقط جدار برلين، الذي أعلن تاريخ تفكك الاتحاد السوفييتي .
.
الدليل الموحي حد القطع على موضوعية ما طرحناه من استنتاجات، أعداد القتلى من الجيش الأمريكي والذي بقي في حدود / 300 / ألف جندي أمريكي فقط ، في الوقت الذي قدم الجيش الأحمر السوفييتي في تلك الحرب ما يزيد عن / 23 / مليون جندي، أما فرنسا فلقد تكبدت ما يقارب / 9 / ملايين ، لذلك فإن فارق الأرقام تظهر حجم الجهد الذي أضافته أمريكا للانتصار في الحرب !! .
.
هذا السبب الأول الذي لم يخضع أوروبا للسياسيات الأمريكية فقط، بل أصبحت أوروبا مجموعة مستعمرات لأمريكا، من خلال عشرات القواعد العسكرية المنتشرة على جميع الأراضي الأوروبية الغربية، بحجة حمايتها من البعبع السوفييتي، وباتت التمايزات السياسية الأوروبية عن السياسات الأمريكية لا تكاد ترى ، بل اعتادت أمريكا اتخاذ القرارات منفردة وعلى أوروبا الالتزام بها، حتى أنها لا تملك حق تعديل القرار، بل كانت تنصاع للاشتراك في جميع الحروب الأمريكية ( حرب افغانستان، حرب العراق, حرب ليبيا، ومصر، وسورية، وها هم متورطون بحرب اليمن الفقير ) .
.
حتى أن حلف ( الناتو ) الغربي طبعاً بقيادة أمريكا، عمد إلى عقد جلسته الأخيرة الاستعراضية في وارسو، مقر حلف ( وارسو) السوفييتي المنهار، اثباتاً لفاعلية الحلف ومدى جديته، ورسالة إلى روسيا بأن عاصمة حلفكم قد باتت بين أيدينا، كما نشرت أمريكا بطاريات من صواريخها على الحدود الروسية، في دول أوروبا الشرقية التي تتجاور مع الحدود الروسية، ولكن على الكافة أن يعلموا أن هذا الحلف قد بات ( كخيال الماتا ) لا يخيف أحداً، بل بات لا وزن له لافي المعيار العسكري ولا السياسي، فالصواريخ لم تعد تعيقها المسافات .
.
و أما السبب الأهم فيتجسد في سرقة أمريكا للمدى الحيوي السياسي والاقتصادي لجميع الدول الأوروبية، وبخاصة الامبراطوريتين العتيقتين بريطانيا وفرنسا، واحتلت جميع أسواقهما، من الهند وصولاً إلى جنوب أفريقيا، وأقصى جنوب أمريكا اللاتينية، وتركت لهم الفتات، من خلال بعض الصفقات الصغيرة من الأسلحة والمعدات العسكرية، وبعضاً من الصناعات التحويلية، التي تأخذ موادها الأولية من الشرق الأوسط، وبعض التقنيات، لذلك كان تصريح ( رامس فيلد ) وزير الحرب الأمريكية السابق على حق عندما وصف أوروبا بالقارة العجوز .
.
هل هذا التوصيف للواقع الأوروبي السياسي ـــ الاقتصادي الراهن، يكفي للدلالة على أسباب تفجر هذه التظاهرات في فرنسا التي أخذت شكلاً عنفياً ؟؟، والتي لن تقتصر على فرنسا بل ستعمم على أوروبا، وهل الواقع المعاشي للفئات الشعبية يبرر هذا التفجر غير السلمي ؟، أم أن هناك أسباب كثيرة أخرى ؟، فأنا لا أعتقد ان سبب ارتفاع الضرائب لوحده قد دفع مئات الآلاف من الفرنسيين للخروج بهذه التظاهرات في جميع المدن الفرنسية!! .
.
حتى أن البعض حمل المخابرات الأمريكية مسؤولية هذا التحرك، رداً على الموقف الفرنسي من حلف ( الناتو) ودعوتها لتشكيل جيش أوروبي مستقل، هذا السبب لا يمكن استبعاده بالكلية لأن أمريكا تملك خبرة كبيرة في هذا المجال، ولقد استخدمته كمقدمة في جميع حروبها، وبخاصة عند تفجيرها لدول أوروبا الشرقية ( بولونيا نموذجاً ) أما جهد المخابرات الغربية وعلى وجه الخصوص الأمريكية، فلقد كان باهراً في نتائجه عند تفجير حروب ( الربيع العربي ) .
.
لكن هذين السببين ليسا بكافيين، فهناك أسباب كثيرة أخرى قادت إلى هذا الضيق المادي من أهمها : ما أثبتاه في المقدمة والذي أكدنا فيه أن الأسواق الأوروبية التي كانت تغطي ثلاثة أرباع العالم قد تقلصت إلى ما دون الربع بكثير، فالمزاحمة الأمريكية التجارية المديدة لم تعد لوحدها، بل دخل إلى السوق العالمي وبقوة الصين والهند وروسيا وغيرها، مما ينعكس سلباً على ميزانيات الدول الأوروبية، وهذا يدفعها إلى زيادة الضرائب التي تُضيق الخناق على المواطن الأوروبي عدى أصحاب الشركات طبعاً .
.
كنا قد أشرنا أكثر من مرة أن تخلخل الأحزاب اليسارية والنقابات حد الانهيار في أوروبا، هي المسؤولة عن حالة الركود السياسي ـــ المطلبي التي طبعت الشارع الأوروبي بطابعها من أوائل التسعينات حتى الآن، والتي أدت إلى ما هو عليه الوضع المادي للشغيلة، وقدرتهم الشرائية، واستخفاف الشركات الغربية بحقوق الشغيلة، كما لا يجوز التغافل عن الوضع الاجتماعي الهش والضيق، وطبيعة الحياة الذي يعيشها الانسان الغربي وبشكل خاص الأوروبي، الذي سمح باغتيال النظام الرأسمالي [ ( للعمق الانساني للإنسان ) ] .
.
فالمجتمع الرأسمالي ومن خلال سير عجلته الاقتصادية، يُحَوِّلُ الفرد من حالته الانسانية إلى آلة للعمل والانتاج، يستيقظ العامل باكراً ليصل إلى موقع عمله، ويعود في المساء منهكاً، فيجلس في حيز منزله الضيق لوحده أو مع صاحبته، ثم يستيقظ صباحاً ويقوم بذات الأعمال، لا أسرة في الأعم ، لا صداقات، لا علاقات اجتماعية، فيصبح الانسان شيئاً، آلة، يعمل، ويأكل لتجديد قوة عمله ، التي تمكنه من متابعته عمله الانتاجي، أما فائض القيمة الذي يحققه العامل لصالح الشركة، والذي يفوق أجره أضعافاً مضاعفة، فهذا يكدس في صناديق الشركات العملاقة .
.
ولما كانت الانسانية تعني العلاقات الاجتماعية، تعني التعاون، تعني التعاضد، تعني الرفاه، تعني الثقافة، تعني التفاعل الاجتماعي، فهل هذه القيم يحققها المجتمع الرأسمالي الذي ( يشيء الانسان ) ؟؟، ويحرمه من فسح الحياة والاهتمام بالثقافة والفن، لذلك نرى الجدب الثقافي في أوروبا، التي أغنى أدباؤها ومفكروها المكتبات العالمية بآلاف الكتب التي كانت من أهم مصادر ثقافاتنا في العقود السابقة .
أعتقد أنه ليس من الموضوعية في شيء، اغفال هذه العناصر ؟؟. التي تضيق على الانسان الغربي نفسه، وتجعله قلقاً يعمل ليأكل، وتسلبه حركيته الاجتماعية، ومشاركاته وتفاعلاته ليست المطلبية فحسب، بل ابداء الرأي في جميع القضايا السياسية والاجتماعية ذات البعد الانساني، وبخاصة وكما قلنا بعد هزيمة اليسار أحزاباً ونقابات ، أما أصحاب الشركات الاحتكارية فلهم حق البذخ والحياة على هواهم، كما الملوك والأمراء في بلادنا، لذلك لابد وأن نعتبر أن الواقع الضاغط الذي يعيشه العامل المحاصر، كان من أهم الأسباب التي دفعت الشغيلة في فرنسا لهذا التحرك، الذي من المنتظر توسعته وتمدده على أكثر من دولة أوروبية، والذي ذَكَّرَنا بالتحرك الطلابي عام / 1968 / .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلنا ونعود فنقول أن تفاقم الأزمات في الاتحاد الأوروبي قد تهدده بالتفكك، وقد تُدرك تلك الدول ولو متأخرة أن مصلحتها مع الشرق وليست مع أمريكا، وأن ( ترامب شبيه غربتشيف ) جاء لإنجاز تفكك التحالف الغربي، وتقليص دور أمريكا في السياسات العالمية، من خلال الرجوع عن سياسات العولمة الاقتصادية، وعودته إلى سياسة الحمائية، عن طريق العمل لعودة الشركات الأمريكية إلى داخل حدودها .
بعد هذه التغيرات الدراماتيكية، ستشكل أحلاف عالمية جديدة، تستدعي توازنات دولية عسكرية جديدة، والتوازنات الدولية تسمح بتوسيع مروحة التفكير بعدم جدوى الحروب الكبيرة، ويمكن أن نجمل ونقول : إن إنهاء الحرب على سورية انتصاراً، سيحقق فرصة أفضل لتغليب الحوار بدلاً من قرع طبول الحرب التي باتت مكلفة جداً .
ـ