بقلم: ذ؛ حسن دحمان
يعتبر أركون العقل ليس إلا ملكة من بين الملكات الأخرى التي يستخدمها الفكر ، بالإضافة إلى الذاكرة و الخيال .
فتاريخ العقل عند أركون قوامه صراع بين “اللوغوس ” و ” الميتوس ” ، بين العقل و الأسطورة . كما أن الذاكرة هي ذلك الوعاء الذي يشتمل على منتجات العقل و اللاعقل في نفس الوقت . هذه الملكات الثلاث يسميها أركون ” فعاليات الروح الخلاقة ” ، و هي متداخلة و فاعلة فيما بينها ، بحيث أن العقل بحاجة إلى الذاكرة و الخيال و لا يستطيع الانفصال عنهما.
و في هذا الصدد ، يرى بعض الباحثين ، أن تصور أركون للعقل ينهل من تصور جديد للعقلانية ، و ذلك باعتباره العقل و الخيال و الوجدان و الذاكرة أبعادا من أبعاد الكائن البشري . و هذا التصور ينسجم و يتماثل مع الفينومينولوجيا و الفلسفات المعارضة للنزعة الوضعية العلموية التي اختزلت الإنسان و تاريخه في بعد ضيق هو العقل المنطقي متجاهلة بذلك بعده الخيالي الوجداني و ذكرياتي.
و عليه ، إذا كان من شأن العقل عند أركون ان يرتبط بالخيال و الذاكرة على حد سواء ، فكيف سيؤثر و يتأثر -أي العقل -باقترانه بصفة ” إسلامي ” من حمولته المعنوية ؟
بمعنى آخر : ما مفهوم العقل الإسلامي عند أركون ؟
إن ما قمت به حتى الآن هو تحديد مفهوم العقل عند محمد أركون ، و تركت الموضوع مفتوحا للنقاش بشأن ربط مفهوم العقل بصفة ” إسلامي ” ، لكن نزولا إلى رغبة أستاذي معانيد ، الذي رأى أن الأمر ربما يستدعي التوسع فيه و إعادة النظر في محاوره ، و لا سيما أن مشروع أركون هو مشروع مرتبط بنقد العقل الإسلامي بصفة خاصة و العقل الديني بصفة عامة .
الملاحظ أن مشروع أركون كما قلت يستند في تأسيسه لنقد العقل الإسلامي على السؤال التاريخي بشكل رئيس ، لذا نجده يقول في كتابه ( الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد ) أن التقسيم التاريخي أنتج عقولا و لم نعد أمام عقل واحد ، حيث عمل على تفريع العقل الإسلامي و جعله عقولا إسلامية تتضمن أنماطا متعددة من المرجعيات و السيادات الثقافية، أي أنه جعل العقل الإسلامي عقلا تاريخيا نسبيا تشكل في التاريخ و عرف تحولات و تراجعات عبر مراحل :
1- مرحلة تشكيل العقل الإسلامي : و هي المرحلة التأسيسية التي تمتد إلى منتصف القرن الثاني 150 هجرية ، و هي مرحلة القرآن و التشكيل الأولي للفكرة الإسلامي.
2- مرحلة العصر الكلاسيكي ، الذي يعتبره عصر العقلاني و الأنسنة ، لأنه انفتح و احتك بالعقل الفلسفي اليوناني ، و تمتد من 150 إلى 450 هجرية .
3- مرحلة العصر السكولاستيكي (المدرسي) ، و هي مرحلة الاجترار و التكرار ، و هو ما يسميه بعصر الانحطاط ، بحيث الذهبية و الطائفية و التقليد .
4 – مرحلة النهضة في القرن التاسع عشر الميلادي و حتى الخمسينات من القرن الماضي.
5 – و يضيف مرحلة خامسة يدعوها بالثورة القومية في فترة جمال عبد الناصر 1952 -1970 ، و الثورة الإيرانية في 1979م حتى اليوم .( انظر كتاب محمد أركون : قضايا في العقل الديني ، كيف نفهم الإسلام اليوم ؟ ).
هذه هي مراحل العقل الإسلامي كما يراها محمد أركون ، و منها يدعو إلى إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة نقدية نستخدم فيها كل العلوم اللغوية و الأنتروبولوجية و الفلسفية و التاريخية .و يعتبر مرحلتنا المعاصرة مازالت سجينة العقل السكولاستيكي الذي يفكر داخل الصندوق ، أو ما يسميه السياج الدوغمائي التيولوجي ، أي أن العقل الإسلامي أصبح منغلقا لا يفكر إلا بتفكير خطي مجرد و مستقيم ، أي الأرثوذوكسية الإسلامية حسب تعبيره أيضا .
و هنا يتوسل أركون بمنجهية التحليل التفكيكي(المستلهم من الفيلسوفين مارتن هايدغر و جاك دريدا ) . فحسب هذا المنهج التفكيكي يعمل أركون على التموقع داخل الظاهرة الدينية، و العمل على تسديد ضربات مطردة و متتالية لتفجيرها من الداخل ، عبر طرح أسئلة في ما يسميه باللامفكر فيه( l’impensé ) ،بهدف تقويض هذه الظاهرة و القطع معها و تجاوزها و ذلك بإظهار و فصح تناقضاتها الداخلية ، باعتبارها مجرد ميتافيزيقا فارغة لا معنى لها . و هذا المنهج يعتمد على ثلات خطوات متتالية :
1- التموضع داخل الظاهرة الدينية التاريخية بهدف خرق حدودها Transgresser.
2- زعزعنها عن موضعها Déplacer.
3- القطع مع الظاهرة و تجاوزها Dépasser.
إنه المنهج التفكيكي الجدلي ذو البعد الثلاثي . لكن أركون لا يكتفي بتبني منهج التقويض و الهدم ، بل يدعو إلى الانتقال إلى ما يسميه بالعقل المنبثق أو العقل الاستطلاعي ، حيث يرى أن المسلمين قادرين على الإسهام بشكل فعال في المساهمة في التشكيل الجماعي لنزعة إنسانية كونية في إطار الفكر و ثقافات العالم . إن حديث أركون عن النزهة الإنسانية في السياقات الإسلامية هو نفسه من أجل ارتقاء العقل الإسلامي إلى مرتبة العقل المنبثق الصاعد الاستطلاعي المستقبلي الجديد ، للإسلام كما قلنا في النقد البناء الحداثة، و لا سيما أن الحداثة وجه مشرق تمثل في الانجازات ، و وجه مظلم تمثل في الاستعمار و العولمة . و هنا يوجه أركون نقده للعقل الغربي المهيمن ، طامحا من خلال ممارسته النقد على جبهتين بانبثاق العقل الاستطلاعي، إنه عقل إجرائي يأخذ بالمناهج و الأدوات البحثية الغربية الحديثة، بعيدا عن مدرسة الاستشراق ، أو ما يسميه أركون بالإسلاميات الكلاسيكية ، و يعطي بديلا عنها بما يدعوه بالإسلاميات التطبيقية باعتبارها فعالية علمية تدرس الإسلام في مناطق اللامفكر فيه ، و ذلك بإخضاعه للنقد التاريخي المقارن و التحليل الألسني التفكيكي و التأمل الفلسفي المتعلق بانتاج المعنى ، كنا جاء في كتابه ، تاريخية الفكر العربي الإسلامي .