وليد.ع. العايش
كان زياد يعيش هنا ، في قرية تسند رأسها على طرف مدينة كازانوفا ربما هي تحمل اسما آخر أوفر حظا من هذا الاسم لكنها كانت هكذا منذ أن بدأ يعلم كيف تطلق الأسماء .
أشقر الشعر أزرق العينين جفناه يبدوان ك جناحي طائر قديم ، طويل القامة حتى أن بعض رفاقه كانوا يسخرون منه لهذا السبب لكن فتيات القرية كن معجبات بطوله الفارع وجماله الذي تجاوز حد الوله .
بيت صغير يبعد عن مركز القرية قليلا ، حجارة سوداء تحيط به من كل الجهات ، غرفتان في الأسفل وثالثة تمكث فوقهما باعتزاز بينما انتشرت الشجيرات في جنباته : ( تين – كرز – توت – مشمش ) أما شجرة الصفصاف فكانت يتيمة تقبع بالقرب من باب البيت .
ذات صباح كان مع والده الأبيض الشعر يصغيان للراديو الخشبي فمرت عبارة لم يفهمها كثيرا ( حرب في أرض الشرق … ربما نطلب المزيد من الجند ) …
أكفهر وجه الأب متململا في جلسته تاركا كأس الشاي يسقط حرا لينكسر ، حركة أثارت فضول الشاب المراهق ( ماذا هناك يا أبي ) … رمقه بنظرة ممتلئة بالكثير من الخوف والرعب لكنه أشاح بوجهه صوب الجبل القابع غرب القرية ، انحدر الشاب إلى الغرفة السفلى حيث كانت أمه وأخويه هناك … طعام الفطور مازال قيد الانتظار …
الباب يهتز فجأة قفز زياد إليه تسمر في مكانه … جنود بكامل عتادهم كانوا هناك ، قبل أن يسألهم عما يريدون بادره أحدهم بالسؤال : ( نريد زياد … الشاب زياد ) … اومأ برأسه نحو الغرفة العليا لكن والده سبقه بالخروج فظهر لهم من أعلى .
( أبي إنهم يريدون …. ) … ( اصمت اصمت لقد سمعتهم ) .
لم يعد هناك ما يخفيه الضباب لقد انقشع كل شيء ، لملم زياد بمساعدة أمه وأخويه حاجياته ، دقائق عصيبة مرت أصبح خلالها زياد جاهزا للمغادرة ، كان الوداع سريعا جدا ومؤلما ك سكين تحط نصلها في قلب صغير : ( هيا هيا ليس لدينا وقت أكثر ) قال زعيم الجند …
مضى الجميع نحو الدرب المؤدي إلى القرية ، هناك على مفرق فرعي كان شبان آخرين ينتظرون مع حقائب تبكي بيوتا فارقتها للتو .
يبدو بأن شيئا ما ربط الألسنة كلها دفعة واحدة فلم يسمع إلا دبيب الأقدام وهي تعاند الأرض نحو جهة مجهولة ، وحده زعيم الجند يتمتم بشيء ما لعلها أغنية أو شتائم يخشى أن يسمعها غيره وربما أشياء أخرى …
في الطريق عاد زياد بنظره إلى بيت يقبع على أطراف القرية … هناك تقطن حبيبته الفتية الجميلة ( سارة ) التي يناديها أهلها ( سوسو الصغيرة ) ، لقد كانت جميلة للغاية بعينيها البنيتين وشعرها الأسود ك ليل حالك الظلمة أما صوتها فكان ك تغريد عنادل ( هل سأراها مرة أخرى ) حدث نفسه ثم تابع سيره مكرها .
أيام … أسابيع … أشهر … توقفت الأيام عن مشهد الإحصاء الإنساني ، ولج الجميع في دوامة لا متناهية من القتال اللامشروع ، الجبال كانت شاهدة على ما يجري في مغاراتها ، الشمس تأبى الظهور كما اعتادت أن تظهر صباح كل يوم ، أما القمر فقد حصل على إجازة مفتوحة بلا أجر .
تلك الأرض لم تكن معروفة ل زياد ورفاقه حتى من يقابلونهم سواء في القرى والمدن كانوا يرتدون وجوها غير تلك الوجوه التي تركوها في قريتهم الصغيرة .
لقد مرت السنوات بطيئة جدا ، هل كانت تزحف على بطنها !!! ربما … وربما لم تريد الاستمرار في مسير لا نهاية له .
نظر زياد ذات عصر حوله ، كان الرفاق في استراحة ، التعب أنهك قواهم فاستسلموا لنوم عميق ، قريبا منه كان أحدهم قبل ساعات يئن ، يتنفس بصعوبة بالغة ، الآن هو بلا هواء يملأ رئتيه .
فتح حقيبة أحدهم كان يغط بنوم بجواره ، وجد أشياء كثيرة لكن لفت نظره كتاب ضمن الأشياء بعنوان ( الجريمة والعقاب ) ، دسه في جيبه ثم أعاد الحقيبة إلى ماكانت عليه … هل تحول إلى لص ؟ …
ازدادت مساحة الذاكرة لدى الفتى زياد فاستعادت صور أمه وأخويه ودمعة أبيه الذي تركه دون أن يلثم ثغره ، مشاهد الشجيرات تتهادى عنوة ، أصبح خلالها في عالم آخر غير هذا الذي يعيش فيه ( لماذا أتوا بنا إلى هنا … من هؤلاء الذين نقاتلهم … لم أصوب رصاص بندقيتي نحو صدور لا أعرفها … هل أصابني الجنون ) … ارتقت الدموع هبوطا إلى مقلتيه ، رمى بكل ما يحمل من عتاد ، بخفة عصفور يخاف من بندقية الصياد انسل بعيدا خشية أن يراه أحد ، استلم دربا جبليا وعرا وانطلق إلى اتجاه الشمس ، هي الوحيدة التي تهديه لقريته ولم ينس اسمها بعد .
مسير أيام مضى ، احتسى الكثير من أوراق الشجر … من أعشاب انتشرت على جنبات الطريق ، تبدلت الملامح مرات عدة ، من بعيد لاح شبح رجل يحمل فأسا ، اتجه إليه ، الحديث لم يستمر طويلا ، فقد أصاب الخوف موطئا في قلب الفلاح لكنه أشار بيده إلى جهة خلف تلة ثم انصرف لإتمام عمله وهو يسترق النظر إلى الشاب الثلاثيني .
( هاهي … هاهي … إنها قريتي ) قفز زياد في الهواء وهو يرى لأول مرة قريته منذ سنوات ونيف ، جرى بكل قوته ، تعثر وقام من جديد ، جروح عديدة أصابت يديه لكنه استمر دون أن يشعر بأي ألم .
هناك كانت مفاجأة ما بانتظاره … بعض البيوت مهدمة وبعضها الآخر مازال على قيد الحياة ، لكن أين أهل القرية !! لا أحد هنا !! تحولت إلى بلدة أشباح .
صوب خطاه نحو بيته الصغير الذي مازال واقفا على قدميه ، لكنه كان خاويا من كل شيء إلا من صوت الرياح العابثة بالمكان ، صعد إلى الغرفة العليا ، إحدى عشرة درجة داسها بهدوء … درجة … درجة … مازالت كما هي ( ياله من منظر ) بعد أن وصل إلى الأعلى ، أشجار التين والمشمش والتوت والكرز رغم يباس شرايينها لكنها تقف على جذوعها ، اعتلاها اللون البني ، بدت شاحبة جدا لكن ابتسامة باردة علت ثغورها جميعا فابتسم هو أيضا .
قبل أن يشيح بوجهه عائدا نحو قرية أخرى ، فاجأته يد تربت على كتفه بحنان ( امرأة جميلة شاحبة الوجه كانت خلفه تماما ) ، دار صوبها دورة كاملة قبل أن يخر مغشيا عليه .
وليد.ع.العايش
١ / ٤ / ٢٠٢٠ م