هكذا مرت طفولتنا. وعندما صرنا بسن الدراسة، كنت انا وفهد بنفس الصف. وفي درس الديانة حدثت المفاجأة الكبرى حيث اخرج الاستاذ صديقي فهد من الدرس ثم قال لنا: هذا مسيحي، والمسيحيون كفار سيحرقهم الله بجهنم، واننا نحن المسلمون سنذهب الى الجنة وسوف نسمع اصوات صراخ المسيحيين في النار وهم يطلبون منا ان نعطيهم جرعة ماء او كسرة خبز ولكن الله لن يسمح لنا بذلك.
يومها فقط، وبفضل استاذ الديانة الذي يتقاضى راتبه من الدولة عرفت اننا شخصان مختلفان وان علي ان انسى احلام طفولتي وان انسى وجه ام فهد الطيب البشوش وانسى ابو فهد الشرطي الذي كان يحمي امننا. فبالرغم من طيبتهم فهم سيذهبون لجهنم لانهم مسيحيون، صديقي فهد الذي لم يرتكب اي ذنب سيذهب الى النار لانه ولد من ابوين مسيحيين، وصديقي نورس الذي سرق احذية المصلين من المسجد سيذهب الى الجنة لانه ابويه مسلمان.
وصرت اشفق على صديقي المسيحي وكثيرا ما كنت اتخيل نفسي وانا اقوم بمغامرة لتهريب بعض الطعام من الجنة الى صديقي المسيحي الذي يحترق بجهنم. ولكن بعد فترة من الزمن، صار تلاميذ صفنا يقولون له: ياكافر انت من اهل النار ونحن سنذهب الى الجنة وكان هذا الكلام يسبب له احراجا كبيرا.
وفي الحي بدأ البعض باضطهاده وابعاده عنا. واذكر مرة اننا كنا نلعب بالدحاحل وتغلب فهد المسيحي على مسلم ونشب شجار بين الاطفال ووصلت الامور للكبار وكم كانت دهشتي كبيرة عندما شهد جميع الاطفال المسلمين بان فهد يكذب، وللاسف كنت انا واحدا منهم. لم يعلمني ابي ان اشهد الزور لصالح مسلم ضد صديقي المسيحي، ولم نتفق نحن الاطفال قبل اداء الشهادة باننا سنؤيد المسلم، فكيف اتفقت شهاداتنا الكاذبة ضد فهد ونحن – كما يقال – اطفال ابرياء؟ انا متأكد بانها بذور الفتنة التي زرعها استاذ الديانة في نفوسنا وقد بدأت تعطي ثمارها.
والنتيجة، ان ابو فهد هجر حينا حفاظا على مشاعر اولاده. وبعد سنوات اخرى، اصطحبت معي صديقي عزيز حسينو الى مسجد الهداية في ركن الدين وداومنا على الصلاة عدة ايام. ثم عرف شيخي ذلك فبهدلني وطردني من المسجد والسبب هو ان صديقي عزيز كان علويا. ايضا بفضل الشيخ الذي يتقاضى راتبه من الدولة اكتشفت بانه ليس كل المسلمين الى سيذهبون الى الجنة، فالعلويون سيذهبون مع المسيحيين الى جهنم بالرغم من ان صديقي العلوي كان احد الذين شهدوا زورا ضد صديقي المسيحي فهد.
جارتنا العلوية ام عزيز كانت ايضا امراة طيبة وابو عزيز كان رقيبا في الجيش الذي يدافع عنا. ولكن الشيخ قرر ارسالهم الى جنهم. ومرت السنوات، وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما التقينا جميعا في اجتماع لاتحاد شبيبة الثورة.( دورة تثقيفية للترفيع للعضوية العاملة) لم يقم احد بطرد صديقي فهد لانه مسيحي، ولم يطرد احد صديقي عزيز لانه علوي وجلسنا معا نستمع لمحاضرة الرفيق محمود الزعبي حول دور الوحدة الوطنية في تعزيز الصمود بوجه الاستعمار.
لم نهتم هل عيسى ابن الله ام قل هو الله احد. لم نهتم هل كان ابو بكر مصيبا ام لا؟ هل ظلموا عليا ام لا. هل منع ابو بكر فاطمة من ميراث والدها ام لا علما بان الكثير من الدروس التي تلقيناها في المسجد كانت تتحدث عن هذا فقط، ولا كلمة واحدة عن الوطن او الوحدة الوطنية. بنهاية المحاضرة، ردننا معا وبصوت واحد: امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة. معا رددنا حماة الديار عليكم سلام. عندها عرفت ان خلاصنا الوحيد لنفض احقادنا التاريخية والالتفات لبناء الوطن هو اقامة دولة مدنية لكل السوريين ومازلت على قناعتي حتى اليوم. والسؤال المطروح الان هو: اولسنا نحن بغبائنا من ربى هذا الجيل الذي ينحر الوطن؟ اوليس شيوخنا من ربوا هكذا مجرمين في مساجد كانت مخصصة لذكر الله؟ اوقفوا اصحاب الذقون العفنة القادمين من مزابل التاريخ قبل ان يدمروا الوطن فوق رؤوسنا. راقبوا مناهج التعليم الديني واحذفوا منها كل مايدعوا الى التكفير والبغضاء عندها ستزهر سوريا من جديد. وبغير هذا، فان السلام وان تحقق فسوف يكون محطة لاستراحة المحارب الذي سيغرس انياب جهله في جسد الوطن عندما تسنح له فرصة ثانية.