محمد ابوزيد فرعون غاضب
1
هذه ليست مذكرات شخصية ، وليست سيرة لشخوص بعينها .
هى إيقاعات حياتية لكثيرين ، ومحصلات لرؤى الكثيرين فى الحياة والوجود …
كانت مفاجأة أن ألتقيه فى سوق الهرج بساحة الميدان ، يعمل فى إصلاح أجهزة الراديو والتلفزيون …أطعموه الفكر الماركسى مع لبن الأم ..فهو شقيق بهية زوجة الشاعر الماركسى الذى توفى بالجزائر فتركت أبنها منه ليربيه الشقيق الآخر أحمد ، وتزوجت من عراقى وعملت بتلفزيون العراق ..نشأ اشرف فيلسوفا او هكذا كان يلقبونه ، فشقيقه احمد مثقف من طراز نادر ويمتلك مكتبة ضخمة وملتزم بالفكر الماركسى شكلا وموضوعا …فى غرفته بفندق بساحة الميدان التقينا ..رفض الحديث فى أى شأن عراقى .. كنت اتنبأ بنهاية وخيمة للعراق على يد صدام ، ولم أكن بقارئ لكف الأيام ، وإنما قارئ لمعطيات الواقع ولوجوه كل من اقابلهم …حذرنى بشدة من الحديث فى السياسة فى تلك البلد ..اكتشفت انه ليس هو الذى اعرفه وأحبه ..وكان مقلا فى الحديث فتركته وذهبت إلى فندق أغادير بشارع النضال لألتقى الشيخ الحواس وهو شيخ عشيرة عربية بكركوك وشريكا لأتراك فى شركة نقل بيروت حيث كانت خطوط الانابيب الممتدة من العراق إلى ميناء طرطوس قد قطعت أثناء الحرب الغريبة بين العراق وإيران …كان احد الرفاق بحزب البحث قد رشحنى للعمل فى تلك الشركة …سألنى الشيخ : تحشى انكليزى ؟ قلت له : نعم ..فأخرج من جيبه فاكس وطلب منى قراءته وترجمته ..قراته بلكنة سريعة فطلب منى القراءة ببطء .. كنت اعمل بفندق والد الرفيق جاسم وهو مدير بنك الرافدين فرع الإمام الأعظم ( الأعظمية ) وكان نفوذه طاغيا …فعندما حضرت الشرطة العراقية وألقت القبض علي بتهمة إعاقة عمل قحباء ( جحبة ) وقد فوجئت انها تهمة ان امنع نزيلة من ممارسة البغاء علنا حين وجدت صفا من الرجال على باب غرفتها ينتظرون دورهم …حضر معى والده لقسم الشرطة وقال لهم دفاعا عنى : هادا مصرى خطية مايفتهم شئ ..لكن مكالمة من إبنه انهت الموقف ..وما وطد صلتى بالرفيق جاسم انه قد لاحظ اننى اقرأ كتبا خارج نطاق المألوف بالنسبة للمصريين فى العراق وهم فى اغلب الاعم منهم لا علاقة لهم بالفكر او الثقافة …وحين عرض علي الإنضمام لحزب البعث العراقى رفضت بلباقة وبما لا يوغر صدره تجاهى .. وكان الرجل محترما فتقبل وجهة نظرى ..قبلنى الشيخ الحواس للعمل بالشركة وكانت تركية مركزها الرئيسى فى إسكندرونة وكانت آيتن مديرة مكتب صاحب الشركة تحدثنى من اسكندرونة بالعربية السورية المحببة لى منذ صغرى ..وقد علمت بعد ذلك ان الشيخ الحواس الذى إختبرنى فى اللغة الإنجليزية لا يعرف تلك اللغة ولا حتى العربية .. هو شيخ عشيرة تفجر البترول فى اراضيها فأسندت اليه الحكومة العراقية مهمة حماية آبار البترول ..فكانت تمنحه راتب ألفى رجل لا يعمل منهم سوى ثلثمائة …كل صور الجلافة تبدو عليه بوضوح .. كان يصطحب القحايب ليمارس الجنس معه بمكتبه الذى يقع بمبنى مجاور لمكتبى ، وكانت حجته ان النوم مع الساقطات يجلب الرزق .. ذات مرة سألنى : أكو عندكم فنادق متل العراق يا ابو جاسم ؟ …كنت اقدر جهله فأجلته ليس كثيرا ..وحين دعانى لزيارته بكركوك اشترطت عليه ان استخدم الملعقة عند الأكل ..مطالعتى لوجوه كل من ألتقيتهم من عشيرته بكركوك جعلتنى أقتنع ان قصة اننا عرب تحتاج تأصيل وربما إعادة نظر …
لاحظت غياب اشرف عن الإتصال بى عدة ايام متتالية .. توجهت اليه فى فندقه الذى كان يديره زوج شقيقة خطيبته وبالمناسبة فهى شقيقة صديق مشترك لنا ..وجدته مهموما ولحيته طويلة …خطيبته هددته بفسخ الخطوبة إن لم يعد إلى مصر فورا ..وكانت العودة الى مصر آنذاك تقتضى الإنتظار لشهور ..فتحويل امواله من البنك والحصول على مقعد بالطائرة يقتضى هذا الإنتظار ..لهذا قرر أشرف الإنتحار ..قلت له : ما مشكلتك ..السفر حالا ..اوكى ..خلال ثلاثة ايام ستكون خارج العراق ..لم يصدق نفسه إلا وهو يتسلم امواله من مصرف الرفيق جاسم وتذكرة طائرته من مكتب الطيران بالسعدون بوساطة الرفيق جاسم ، ونحن نودعه بمطار صدام الدولى .. انا وعلاء زوج شقيقته بهية وإبنه الصغير …
بعد خمس سنوات زارنى بالاسكندرية ..كانت حالته أسوأ مما كانت عليه ببغداد ..شخصيات تيودور ديستوفسكى تسيطر على مخيلته ونظرته للحياة ..أنجب طفلين ..واكتشف ان كل ذلك عبث ..لعن الشيوعية ووصم الماركسيين بالإحتيال ..ظننت ان الخمر قد لعب برأسه ..لكنى عندما التقيته بعدها بفترة وكانت زوجته قد سافرت للعمل بالإمارات ، وجدت حالته اصبحت متردية ..أدمن الاقراص المخدرة ، والحزن الوجودى ..لعن كل شئ إلا ديستوفسكى ..وانهى حياته على طريقه أبطاله ..أنتحر شنقا …لكن حياة زوجته لم تتوقف …لكنى أذكر له مقولة هامة سمعتها منه بعد ان عاد لمصر ..البعث العراقى نكبة على العراق ..وسينقلب يوما إلى عدو شرس للعراق والعراقيين ..مات اشرف قبل ان يرى نبؤاته عن العراق وصدام تتحقق