ب ع ، صديق وزميل بالعمل ، جمعتني به مهنة المتاعب منذ أزيد من عشرية كاملة ، وقبل ذلك كان قد اشتغل بالفلاحة ، ثم مارس مهنة النجارة المعمارية ، وموظف إداري ، وأستقر به الحال في الإعلام بعدما جرب مهن كثيرة ، قص علي ذات مرة من تجربته الطويلة إحدى المحطات التي مر بها ولازالت ذاكرته تحتفظ بتفاصيلها ، قال : لما كنت في السابعة ، والثامنة ، والتاسعة من عمري ، أحببت وظيفة وتمنيت الظفر بها لما أكبر ، من بين الوظائف الكثيرة التي كانت آنذاك شائعة بين عامة الناس وعليها إقبال كبير ، كالطب ، والصحافة ، والتعليم ، والانتساب إلى أسلاك الدولة… ، صديقي أحب وظيفة كاتب بالبلدية ، ذالك الشخص الذي يقوم بمهام تحرير وثائق الحالة المدنية ” أوراق الثبوتية ” ، أتدرون لماذا ؟ لأنه اعتاد مرافقة والدته رحمها الله في رحلتها الشاقة لاستخراج وثائق الحالة المدنية وهو صغير ، وكل وثيقة تستخرجها المسكينة تأخذ وقتا طويلا بأروقة البلدية ، صديقي كان يظن أن ما تقدمه مصالح البلدية عمل متعب وشاق ، يستدعي مؤهلات علمية ، وتكوين عال للقيام به ، وما تأخر انجاز وثائق الناس راجع أصلا لصعوبة العمل ، ولم يكن يعلم أن ما يحصل هو من فنون البيروقراطية ، وأولئك الموظفون هم مجرمون مع سبق الإصرار والترصد ، وأن هذه الأساليب من تركة الاستعمار ، ففي زمن مضى إذا ما أردت أن تستعجل في وثيقة ما عليك إلا أن تضع ورقة نقدية من فئة ٥ دينار أو ١٠ دينار بين ثنايا صفحات الدفتر العائلي .
وقد سمعت ذات مرة شيخا طاعنا في السن التقيت به في الحافلة وأنا متوجه نحو مدينة سطيف ، أن لهم أخ جند للحرب العالمية الثانية وتوفى بإحدى المعارك ، فاضطرت العائلة لاستخراج وثائقه لتقسيم الإرث ، فلما ذهبوا إلى مصالح البلدية قيل لهم انه غير مقيد بسجل الحالة المدنية أصلا ، قال : أسندت لي العائلة مهام تسوية هذه المشكلة لقربي من المدينة حتى أخفف من عناء تنقلهم ، وأضاف يقول : قصدت مصالح الحالة المدنية وجعلت ورقة نقدية من فئة ١٠ دينار بين أوراق الدفتر العائلي وتقدمت نحو الشباك ، سلمته لمسئول المصلحة ، فلما فتح الدفتر العائلي وجد تلك الدنانير ، فراح يصرخ في وجه زملائه ويتهمهم بالتكاسل في عملهم ، طالبا منهم انجاز تلك الوثيقة حالا ، فقلت في نفسي يا الهي ما هذا ؟ لصوص أبناء حلال ؟ ، يمدون أيديهم لجيوب الناس وينهون عن المنكر ويأتون بمثله ؟ ، وما هي إلا دقائق معدودة حتى كانت الوثيقة بين يدي .
أما صديقي ب ع ، فسرعان ما ذهبت تلك الأمنية من مخيلته بتقدم سنه ، ولم يعد يهتم بشؤونها بعدما عرف أشياء كثيرة كان يجهل مآلها ، لكن من الصدف غير جميلة أنه توقف عن الدراسة فجأة ، لأسباب عائلية وأجبرته الظروف فيما بعد على السفر نحو العاصمة ، للبحث عن وظيفة مع إمكانية متابعة الدراسة بطرق أخرى ، فلم يظفر بأي وظيفة من عشرات الطلبات التي تقدم بها إلى قطاعات عدة ، ما عدا الطلب الذي تقدم به إلى بلدية بوسط الجزائر وكان يسخر به من ابن خالته ، ليلتحق في النهاية بوظيفة حلم بها في صغره … ، ومن جمال الصدف أن يحقق الإنسان أمنية طفولته ، لكن حسبه لا يوجد استثناء أو تميز ، فجل البلديات لها نفس المواصفات وتحكمها ممارسات مماثلة ، لا تخلو معظم البلدان العربية من هذه الممارسات الدنيئة ، تكاد تكون تقليد جامع بين الأوطان ، مع أن القوانين تجرم هذه الأفعال وتعتبرها رشوة يعاقب على فعلها ، يرى البعض على أنها ” قهوة ” ، نظير خدمة معينة ، وفي كل هذا هناك ظروف ساهمت في انتشار هذه الظاهرة ، من بينها ضعف راتب الموظفين الذين يؤدون هذه الوظائف ، إذ لا يغطي مصاريف أسبوعين لموظف أعزب ، ناهيك عن متزوج يعيل عائلة ، أيضا هناك ترسبات قديمة ورثناها من الاستعمار الذي ساهم في ترسيخ هذه الممارسات إلى أصبحت تقليد سارت عليه بلداننا ، فالرشوة التي تبدو في الوهلة الأولى بسيطة مجرد “قهوة ” اتسع انتشارها وأصبحت غداء وشواء ، ونسبة مئوية تؤخذ من كل مشروع ينجز ، وتكبر شيئا فشيئا مثل كرة الثلج إلى أن أضحت فساد ينخر جسد الدولة ولا نستطيع مجابهته .
مكتب الجزائر : أبو طارق الجزائري