صباحات الندى وكؤوس النور مدفوقة، مترعة من شمس ربيع تبدو من خلف قمم جبالك سورية، صباح الخير يطالعك طفل بعمر الورد ونضارة البنفسج يحمل حقيبته متلفعاً بإيمان اليوم وروعة الغد، يغذ السير إلى مدرسته، أسراب من الطيور البيضاء، وكأنهم فعلاً كما قال شوقي بغدادي: هنا في فراغ القلب طاروا وحوموا..
صباح الخير لجندي عربي سوري يلفه ثلج أبيض نقي طاهر كبياض قلبه يبادهك بالتحية وبسمة على شفتيه تمنحك الدفء وأنت القادم من فراش وثير، ومن قرب مدفأة، ومن تركت كأس شايك أو فنجان قهوتك ورغيف خبزك، أو بسمة ابنك، أو زوجتك، أو حفيدتك، أو… وهو الذي لم يغادر هذا المكان ربما من عام أكثر أقل.. لا يهم.. صباح الخير من صباح سوري كل يوم يعبق بالعطاء.. صباح الخير من اطلالة قاسيون، ومن وراء تلال القلمون، وجبل العرب، وسهول حوران…
صباح الخير من جبال مزنرة بمقابر الشهداء في اللاذقية وطرطوس وتلال حلب وجبل الأربعين والزاوية، صباح الخير من كل بقعة سورية أينما كانت وكيفما تناءت فهي لنا طال الزمن أو قصر..
صباحات سورية هي غير كل الصباحات أبداً.. هي صباحات لا يعرف سرها إلا الذين تنفسوا هواءها وعاشوا روعتها، وهل من سوري أصيل لم يعش هذا..
حين كنا صغاراً كانت تستهوينا القمم العالية، تحيط بقريتنا والقرى المجاورة، هناك الرفيعة، وهناك / جوفين،هناك وهنا؛ كم هو المشهد رائع وراء كل القمم السورية أرأيتم صباحات في الدنيا تبدو فيها شمس الصباح تشرق من وراء القمم ومن تحتها إلا في سورية.
شمس صباحاتنا تشرق خجولة تدفق إلينا بأول كؤوس خمرها من بين التلال، ننظر إليها فنرى الجبال أعلى وأكثر ارتفاعاً وشموخاً ورويداً رويداً تغفو الجبال على حنايا أبنائها تقدم ماءها، هواءها، شجرها، وتسنح للشمس أن تتسلل علواً إلى كبد السماء.
هي صباحات الذاكرة مازالت تزداد رسوخاً هنا من دمشق أرى الصباحات والاشراقات من خلف القمم الشامخة هل راقبتم هذه الاشراقات عند أعراب الرمال، أما رأيتم أن الشمس في سماءاتهم تائهة حتى الشمس تائهة لاتعرف من أين تشرق وإلى أين المسير..؟! ألا ترون السراب يخاتلهم يخادعهم هنا سهولنا، قممنا، جبالنا، شراشف قصب، وندى من قمح ومن ياسمين.. هل كان جبران خليل جبران يقصد غير بلاده سورية حين كتب وهو في صحراء الغربة: «هل تحممت بعطر وتنشفت بنور وشربت الفجر خمراً في كؤوس من أثير أعطني الناي وغن فالغنا خير الصلاة وأنين الناي يبقى بعد أن تفنى الحياة».
هو ذا صباحات سورية كؤوس خمر وخمرنا معرفة وحب وتواصل، وحياة خمرنا من سر الإله الذي حبانا الحياة حلوة، ندية، شهية، عذبة، صلاتنا تواصل وعمل..
صباحات سورية هي كؤوس العطاء لكل العالم من هنا من سر الناس وهم يقبلون على الحياة بكل حب وشغف، السوريون وحدهم يدركون أنهم جميعاً أشجار حور وسنديان هم جميعاً على ثرى هذا الوطن أسياد حقيقيون وأنهم من فضلة الكؤوس سقوا المجد.
صباحاتنا أن تأتي عملك لترى من يرسم على شفيته بسمة يطالعك بها تفتقده حين لاتراه لاتعرف اسمه لاتعرف من أي بقعة جغرافية هو لكنك تعرف أنه سوري لم يبع ولم يشتر هكذا افتقد أحد البسطاء الطيبين من عمال (الصباح) في مؤسستنا حين أصل في السابعة والنصف يطالعني بوجهه البشوش يسأل بلهفة: طمني عن الطريق كيف الأحوال ويسرد بلهفة شوقه إلى الأيام الحلوة ويدعو من قلب صاف أن تنقشع الغيمة والغمة عنا طوال عامين لم أسأله من أين أنت إلا منذ شهر ربما خطر في بالي أن أعرف كيف يأتي فقال: أنا من الديماس طريق سهل والحمد لله لامشاكل لدينا أسأله: من أسبوع لم أرك أكان طريقك مقطوعاً لا أبداً أزمة صحية عابرة كما قالوا لي جلطة بسيطة ومرت.. ولم لا ترتاح في البيت هنا راحتي عملي يشدني فنجان القهوة مع الزملاء الذين أقاسمهم الصباحات الباكرة..
مر شهر ونيف والرجل كعادته ندي كريم مرت أيام بعدها.. لم أره أفتقده أسأل عنه فإذا بالصمت جواب.. لقد مات الرجل.. عادت الجلطة ثانية، ورحل مع صباحات جميلة، سمع ورأى الألق السوري في كل مكان، رأى الشمس من وراء قمم وتلال الديماس تشرق وإليها تهدي القبلة الأولى..
السوريون كلهم يرون الشموس والأقمار من وراء القمم، يرون أن من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر، قراهم، مدنهم، سهولهم، شاردات مع الغيوم.. السوريون هم من يرددون مع سليمان العيسى للوطن:
إنا سقيناه الشباب صبا كما يهوى ورصدا
إنا زرعنا أمس زهو العمر في هذي التلال
ليعانق الحجر المقدس فيه أجنحة الظلال
نحن الظمأ وإن سقينا الناس ألحان الحياة
نحن الرذاذ البكر نحن تنفس الأرض والموات
نحن من سقى الدنيا فضلة مكارمه، وظمىء وما رشف من كأس أحد ولا لون عذب فراته، نحن الطهر، وهم الدنس، هي صباحات سورية كؤوس من أثير، ومن عبق، وجبال على هاماتها استراح الدهر وفي وديانها سحر الأساطير والحكايا تطاول الدنيا ولا تنحني.